:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، مايو 09، 2008

القطّ في ثقافات الشعوب

القط كان وما يزال رفيق الإنسان منذ القدم. ولا بدّ وأن لكلّ واحد منا ذكرياته الخاصّة عن القطط منذ أيام الطفولة، خاصّة إن كان قد نشأ في بيئة فلاحية.
شخصيا انقطعت علاقتي بالقطط منذ أن رحلت عن قريتنا. ففي المدينة الكبيرة يندر أن ترى القطط، اللهم إلا إذا لمحت أحدها وهو يعدو مسرعا في أحد الأزقة أو ممدّدا على ناصية أحد الشوارع بفعل سيّارة مسرعة.
مؤخّرا قرأت دراسة طريفة عن القطط وعن حظوظها التي ظلت في حال صعود وهبوط على مرّ العصور.
كانت القطط المنزلية في مصر الفرعونية وروما تعتبر في عداد الآلهة! وكان كلّ من يقتل قطا في مصر القديمة ُيحكم عليه بالموت حتى وإن ثبت أن القط مات لسبب عارض. أما في روما فقد كان القط يمثل آلهة الحرّية (!) وكان جنود روما يحملون صوره على دروعهم وأعلامهم.
وعندما انتشرت المسيحية هبطت حظوظ القطط فجأة. وقام بودوان الثالث كونت الفرنجة بالتخلص من القطط "المقدّسة" وغيرها من "الآلهة المنزلية" ليثبت انه تخلى عن الوثنية. ولسوء الحظ ألقى بودوان المذكور بقططه من نافذة قصره وبدأ تقليدا سنويا لتعذيب القطط اسماه "مهرجان القطط"!
وخلال القرون الوسطى كانت القطط، خاصّة ذوات اللون الأسود، ُتحرق في الحقول لحماية المحاصيل من الأرواح الشريرة ولضمان محصول طيّب.
وأثناء حفلات مطاردة الساحرات في أوربا القروسطية، كانت القطط تعتبر التجسيد الأقرب للشيطان والرفيق المفضّل للساحرات. وإذا شعرت امرأة حامل بألم في بطنها فإن السبب هو أن ساحرة حاولت أن تملأ بطن المرأة بالقطط الصغيرة التي تخمش وتعضّ محاولة الخروج من مكانها! ويمكن أن يتسبب قط ذكر في جعل امرأة تحمل بالقطط إذا قفز فوق طعام وأكلته المرأة!
بمثل هذه العقلية الخرافية كان أوربيو القرون المظلمة يفكّرون!
وفي بعض تراثنا الفقهي ثمّة إشارات كثيرة عن الحيوانات لا يمكن للمرء بعد قراءتها والتمعّن فيها إلا أن يستنتج أن عقليتنا وطريقة تفكيرنا ليست بعيدة تماما عن خرافات أهل القرون الوسطى!
في نفس تلك الفترة وفي غرب أوربا كانت القطط ُتعذّب وُتقتل علنا. وكان الناس يستخدمونها لتمثيل كلّ قوى الشر كالسّحر ومصّ الدماء Vampirism والسحر الأسود. ثم أصبحت القطط ترمز للخطايا كالشهوة والكسل والغيبة والنميمة والخداع والإباحية. وفي ما بعد أصبح القط صورة للمرأة العاهرة وارتبط بصورة يهوذا لإظهار طبيعة نفسه الحقودة والقاسية.
وكان ُيعتقد أن القطط تنجذب إلى قبور الموتى الملعونين وأنها تصدر هسيساً في محاولة منها لمحاكاة الشيطان! وتقول الأسطورة إن للقط تسعة أرواح، أما لماذا الرقم تسعة بالذات فيقال بأنه كان يرتبط في الماضي بالفأل والحظ السعيد.
ويقول اليابانيون إن القط يمكن أن ُيخلّص من الشر إذا ُقطع ذيله الذي هو مصدر شروره. وفي بلدان أخرى تروج أساطير عن عيون القط، فمن خلال حركة توسّع بؤبؤ عين القط يمكن معرفة اتجاه الموج والوقت ومراحل القمر.
وبعض الأفارقة الأمريكيين يعتقدون أن القطط ترى الأشباح وتستخدم عيونها في طقوس السحر.
وكانت بعض الشعوب تعتقد أن الوميض الذي يصدر عن عيون القطط في الليل مردّه ضوء الشمس الذي تختزنه عينا القط في النهار لاستخدامه لمطاردة الأشباح والأرواح الشريرة في الليل! بينما تعتقد شعوب أخرى أن الوهج في عيون القط إنما هو عبارة عن شرر من نار الجحيم!
ومن أطرف ما سمعته عن القطط قصّة حكاها لي صديق منذ بعض الوقت، إذ كان يوجد في منزلهم عدد مهول من القطط، ولكن ذلك لم يكن يمثل لهم مشكلة، حيث الخير كثير والأكل وفير. غير أن المشكلة كانت تتمثل في السلوك العدواني الذي كان يظهره أحد القطط، وكان قويّا ضخم الجثة وذا لون اسود!
كان القط المستأسد يهاجم جميع أعضاء فصيلته دون استثناء وكان لا يوفّر الدجاج والحمام والعصافير من غزواته، فالكلّ عنده مشروع جاهز للهجوم والافتراس وما أن يروه أو يظهر لهم على حين غرّة حتى ترتفع صرخاتهم مولولة مستغيثة. وعندما فكّر صاحبنا في علاج للمشكلة ينهي حالة التوتر والإزعاج في بيته استبعد خيار التخلص من القط بقتله. فالقط أسود وموروثنا الشعبي ملئ بالقصص التي تحذّر من مغبّة قتل القطط السوداء "المسكونة"!
وإذن لم يبق أمام الرجل إلا طريقة واحدة للتخلص من الصداع الذي كان يسبّبه القط. وفي صبيحة أحد الأيام استطاع استدراج القط وأدخله في كيس، ثم قام بإغلاق الكيس ووضعه في مؤخّرة سيارته ثم اتجه مسيرة ساعتين بالسيارة وهناك اخرج الكيس وأطلق القط الذي جرى مسرعا باتجاه الجبال القريبة!
وعاد صاحبنا إلى البيت وقد علت وجهه علامات السرور والارتياح بعد أن تخلص من إزعاج ذلك القط المشاغب.لكن، بعد ثلاثة أيام، صحا صاحبنا من نومه على أصوات الدجاج والحمام والقطط وهي تصرخ طالبة النجدة. وعندما اطلّ من الشرفة لم ينكر وجه صاحبه الذي توهّم انه تخلص منه ومن إزعاجه نهائيا!
لقد عاد القط إلى مكانه الأثير وقطع في طريق العودة عشرات الشوارع والأزقة والبساتين بفضل غريزته وحدسه الذي لا يخطئ!
ورغم أن ملاقاة أو رؤية قط اسود ما يزال يعتبر نذير شؤم في أمريكا مثلا، فإنه في بلدان أخرى يعتبر رمزا للتفاؤل.
وفي اليابان فإن تماثيل القطط التي تبدو فيها رافعة أكفّها اليمنى يعتبر رمزا للفأل الطيّب والحظ السعيد. وفي كثير من الأساطير الدينية هناك قصص عن نوح وأول قط ُخلق على الأرض، كما أن عيسى ابن مريم غالبا ما يظهر في صوره، وهو طفل، مصحوبا بقطة صغيرة!
ولا شكّ أن القطط تستحق التقدير والشكر على تخليص بيوتنا من الفئران والقوارض والحشرات الضارّة. وُينظر اليوم إلى تكتيكاتها اللعوبة والبارعة بشيء من الطرافة والاستلطاف بعد أن كانت في الماضي رديفا للشياطين والشرور.


Credits
thecollector.com

الأربعاء، مايو 07، 2008

مائدة، كرسي، طبق فاكهة وآلة كمَان

لماذا إذا تهيّأت للنوم يأتي الكمان؟!
فأصغي آتياً من مكان بعيد
فتصمت همهمة الريح خلف الشبابيك
نبض الوسادة في أذني
تتراجع دقّات قلبي
وأرحل في مدن لم أزرها
شوارعها فضّة
وبناياتها من خيوط الأشعّة
ألقى التي واعدتني على ضفّة النهر واقفة
وعلى كتفيها يحطّ اليمام الغريب
  • أمـل دنقـل

  • عندما يتعلّق الأمر بالموسيقى، لا صوت يطرب ويثير المخيّلة كامتزاج أنغام آلتي الكمان والبيانو. لكنْ لو كان لي أن اختار آلة مفردة لما تردّدت في اختيار الكمان، لأنني مع من يقول إن الكمان هو الرمز الأسمى لأناقة الموسيقى وجمال الطبيعة معا. الكمان قريب جدّا من المشاعر. وهو اقرب الآلات الموسيقية شبها بصوت الإنسان.
    وقد قرأت ذات مرّة أن بدايات ظهور هذه الآلة تعود إلى القرن التاسع الميلادي. ويقال إنه أتى من آسيا وأن الأتراك والمغول قد يكونون أوّل من عرف الكمان في التاريخ، وكانوا يصنعون أوتاره من شعر ذيل الحصان.
    ثم ما لبث الكمان أن انتشر إلى الصين والهند وبلدان الشرق الأوسط. وطبعا كان شكل الآلة آنذاك بدائيا وبسيطا. وقد استغرق الأمر خمسة قرون كاملة قبل أن تصل هذه الآلة إلى شكلها الحالي والمتعارف عليه.
    التغيير الجذري الذي طرأ على شكل الكمان وعلى تطوّر إمكانياته تحقّق في مدينة ميلان الايطالية "ويقال في البندقية" حوالي بدايات القرن السادس عشر.
    ويشار إلى أن أوّل عازف كمان مشهور كان الايطالي اندريا اماتي الذي يرجع إليه الفضل أيضا في صنع أوّل آلة كمان بشكلها الحديث والمعروف.
    وأشهر ماركات الكمان في العالم هي ستراديفاريوس وأماتي وغارنييري، وهي أسماء لصنّاع ايطاليين برعوا منذ قرون في صناعة الكمان واستخدامه. وأشهر العازفين اليوم يفضّلون اقتناء هذه الأنواع القديمة من الكمان المعروفة بغلاء أسعارها وبأدائها العالي وجودة النغمات التي تصدرها.
    وفي مناسبات مختلفة بيع بعض هذه الآلات، لشهرتها ولقدم صنعها، بأكثر من مليون جنيه استرليني، في حين لا يكلّف أغلى وأجود نوع حديث أكثر من عشرة آلاف دولار.
    ولأن بدايات الكمان الحقيقية ارتبطت بإيطاليا، لم يكن غريبا أن يصبح نيكولو باغانيني الايطالي أشهر عازف كمان في تاريخ الموسيقى كله. ويقال انه كان لفرط مهارته يستخدم كلتا يديه في العزف. كما كان بارعا في العزف على وتر واحد في حال انقطعت الأوتار الثلاثة الأخرى. وقد أصبح تقليدا شائعا منذ ذلك الوقت أن يحتفظ العازف في جيبه بوتر إضافي تفاديا لاحتمال انقطاع احد الأوتار.
    وفي زمن باغانيني، وأيضا فيفالدي، كان الكمان مرتبطا بالطبقة الراقية وبفئة النبلاء والارستقراطيين.
    اليوم ثمّة ملاحظة جديرة بالاهتمام تتعلّق بهذه الطفرة الكبيرة التي نراها الآن في عدد النساء اللاتي يعزفن الكمان بعد أن كان في الماضي عملا يختصّ به الرجال وحدهم. والكثير من هؤلاء العازفات لا تنقصهنّ البراعة ولا الجاذبية. وهذه الصفة الأخيرة تُعتبر عاملا مهمّا جدّا لا تغفل عنه شركات التسجيل ولا منظّمو الحفلات الموسيقية.
    وهناك من يقول إن معظم الأسماء الكبيرة اليوم في مجال العزف على الكمان هي لنساء. ويتساءلون هل أن الأمر مجرّد مصادفة، وهل الإناث أكثر قدرة من الرجال على تحمّل الدروس الطويلة والشاقّة التي يتطلّبها العزف على الآلة، أم لأنّ الكمان يتميّز بصغر حجمه وبسهولة حمله من مكان لآخر دون حاجة إلى تجهيزات ثقيلة وتحضيرات معقدة؟
    وهل يمكن فعلا اعتبار الكمان والبيانو والفلوت آلات أنثوية بحكم أن الأسماء البارزة والأكثر شهرة في العزف على هذه الآلات في العالم اليوم تعود لنساء؟
    وفي المقابل، هل يمكن اعتبار الغيتار والساكسوفون والآلات النحاسية آلات ذكورية على اعتبار أن الرجال هم من يتسيّدون ساحة العزف على هذه الآلات حاليا؟
    قرأت مؤخّرا بعض الأفكار التي لا يخلو بعضها من طرافة عن تأثير موضوع الجندر في الموسيقى. ومن الواضح أن إتقان العزف على الكمان بخاصّة يتطلّب مستوى عاليا من الموهبة والذكاء وسعة الخيال. وقائمة مشاهير النساء البارعات في العزف على الكمان اليوم طويلة ولا تكاد تنتهي. وبعضهنّ عملن مع أشهر الفرق السيمفونية في العالم، وتتلمذن على أيدي أشهر العازفين وقادة الاوركسترا من أمثال ياشا هايفيتز وايزاك ستيرن ويوجين اورماندي ودانيال بارانبويم وفلاديمير اشكنازي وهيربرت فون كارايان وغيرهم.
    والأسماء النسائية المهيمنة الآن على صناعة العزف على آلة الكمان هي امتداد للرعيل الأول من النساء الرائدات في هذا المجال مثل البولندية واندا ولكوميرسكا والنمساوية ايريكا موريني والأمريكية مود باول والمجرية يوهانا مارتزي والبولندية ايدا هاندل واليابانية تاكاكو نيشيزاكي وغيرهن.
    ويأتي على رأس عازفات الكمان من الجيل الجديد الألمانية آنا زوفي موتار التي تخصّصت في عزف بيتهوفن وفيفالدي وباخ وموزارت وسترافنسكي. وعلى ذكر موزارت، لا اعتقد أنني سمعت من قبل أجمل ولا أروع من عزف زوفي موتار لكونشيرتو الكمان رقم 3 الذي يُعتبر ليس فقط احد أفضل أعمال موزارت وإنما احد أعظم القطع الكلاسيكية التي تمّ تأليفها على مرّ العصور.
    ولـ زوفي موتار طريقتها الخاصّة والمتميّزة في العزف، وهي لا تنظر إلى الجمهور إلا نادرا ولا تعيد العزف إلا في ما ندر. كما أنها تعامل في بلدها كأميرة ووريثة للعازف والمايسترو العظيم فون كارايان الذي اختارها وهي بعدُ في الثالثة عشرة وأجلسها معه في فرقته.


    وموتار هي اليوم في الخامسة والأربعين وتجني أكثر من ثلاثة ملايين دولار سنويا مقابل الحفلات الموسيقية التي تعزف فيها، أي ضعف ما يتقاضاه أفراد اوركسترا كاملة في فرنسا أو بريطانيا. موتار مغرمة كثيرا بموزارت الذي تقول عنه إن تأثير موسيقاه في الروح مثل تأثير أشعّة اكس التي تشفّ الجسم وتكشف كلّ ما فيه.
    ويظهر أن الأمريكيين بدءوا هذه الأيام يغارون من اتساع شعبية زوفي موتار التي يرون في صعود نجمها وازدياد شعبيتها عندهم تهديدا لمكانة من يعتبرونه عازف الكمان الأوّل في العالم اليوم وهو الأمريكي ايزاك بيرلمان .
    والحقيقة أن ريادة الأمريكيين في مجال العزف على الكمان وكثرة العازفين المبدعين عندهم أمر لا يمكن إنكاره. هناك مثلا العازفان الأسطوريان ايزاك ستيرن ويوشا هايفيتز، بالإضافة إلى كبار العازفين الأحياء أمثال جون كوريليانو وريجينا كارتر بالإضافة إلى جوشوا بيل الذي يستخدم آلة كمان من نوع ستراديفاريوس يعود تاريخ صنعها إلى ما قبل ثلاثة قرون.
    وكان آخر أعمال جوشوا بيل اشتراكه مع زميله كوريليانو في وضع الموسيقى التصويرية للفيلم السينمائي المشهور الكمان الأحمر.
    كلّ هؤلاء أمريكيون. كما أن أعظم عازف للتشيللو في العالم الآن هو الأمريكي من أصل صيني يو يو ما الذي اشتهر بعزفه المنفرد والمتميّز لسوناتات باخ وموسيقى دفورجاك وشوبيرت وموزارت.
    بعد زوفي موتار يأتي اسم عازفة الكمان الأمريكية من أصل كوري سارة تشانغ التي تتلمذت على يد يهودي مينوهين الذي وصفها في إحدى المرّات بأنها أكثر عازفات الكمان مثالية وإحكاما.
    ثم هناك الهولندية جانين يانسن التي برعت في عزف تشايكوفسكي ومندلسون وبرامز. وبوسع زائر موقعها الاليكتروني الاستماع إلى عزفها الجميل لبعض سوناتات فيفالدي.
    وهناك أيضا الأمريكية الصاعدة بقوّة هيلاري هان التي احتلّ أوّل ألبوماتها الذي ضمّ بعض سوناتات باخ المرتبة الأولى في قائمة التسجيلات المفضّلة طوال أسابيع. يُذكر أن هيلاري هان برعت على وجه الخصوص في عزف كونشيرتو جان سيبيليوس الذي يقال انه احد أصعب القطع الموسيقية التي كُتبت لآلة الكمان، وإجادته تتطلّب مستوى غير عادي من التركيز الذهني والسيكولوجي.
    وهناك كذلك الاسكتلندية نيكولا بينيديتي التي تظهر في بعض صورها محتضنة آلة كمانها المصنوع في فينيسيا عام 1751 على يد بييترو غارنييري.
    والقائمة تطول. لكن يمكن الإشارة في عجالة إلى بعض الأسماء النسائية الأخرى والمهمّة مثل الكندية لارا سانت جون واليابانية ايكوكو كاواي والروسية فيكتوريا مولوفا والبريطانية السنغافورية الأصل فانيسا ماي والجورجية ليزا باتياشفيلي والألمانية جوليا فيشر وسواهن.
    الملاحظة الأخرى التي تلفت الانتباه هي أن معظم عازفات الكمان، وأكاد أقول جميعهن، يتميّزن بقدر عال من الجمال والجاذبية والحضور. بل لا أبالغ إن قلت إن ملامح بعضهن وطريقة لباسهن وحتى أسلوب حياتهن لا يختلف في شيء عن عارضات الأزياء والممثلات ومغنّيات البوب. وقد اكتشفت مع الأيّام انه حتى الجيل الجديد من مغنّيات الأوبرا "وعلى خلاف ما يتصوّره الكثيرون عن جدّيتهن ورصانتهن" يشتركن في هذه السمة التي تلخّص إلى حدّ ما طبيعة الأنثى وميلها الغريزي إلى إبراز جمالها وحتى التفنّن في أظهار مفاتنها للفت أنظار الجنس الآخر.
    ومع ذلك لا يمكن لوم النساء وحدهن، فالموسيقيون من الرجال أيضا يبالغون في إظهار أناقتهم واهتمامهم بالشكل الخارجي. وقد قرأت مؤخّرا رأيا لم اتأكّد من صحّته وملخّصه أن نشأة الموسيقى الكلاسيكية نفسها ومن ثم تطوّرها خلال القرنين الأخيرين كان قائما على فكرة التقاطع ما بين الفن والجنس "أي الذكورة في مقابل الأنوثة"، وأن عددا كبيرا من المؤلّفين الموسيقيين من الرجال كانوا حريصين دائما على تقمّص نموذج شخصية اللورد بايرون في محاولة لخطب ودّ النساء والتقرّب منهن.
    وبعض قادة الاوركسترا الكبار كانوا يعمدون إلى ترتيب ديكور حفلاتهم بحيث يكون الضوء مركّزا على شعورهم الطويلة اللامعة للفت أنظار النساء ونيل إعجابهن.
    ومن العبارات المنسوبة إلى باغانيني قوله: لست بالرجل الوسيم، لكن عندما تسمعني النساء وأنا اعزف، سرعان ما يأتين إليّ زحفا ويجثين عند قدمي".
    وضمن هذه الإطار يقال إن الموسيقي فرانز ليست كان مضرب المثل في جماله ووسامته، كما كان أشهر عاشق في أوربّا في زمانه وأعظم عازف بيانو في تاريخ الموسيقى كلّه. وكانت النساء تتقاتلن من اجل الحصول على أعقاب السجائر التي كان يتركها على البيانو بعد الحفلات الموسيقية التي كان يحييها.
    إن تزايد أعداد النساء اللاتي برزن بقوّة في مجال العزف على الكمان في السنوات الأخيرة يرقى إلى اعتباره ظاهرة يمكن أن تكون تعبيرا عن عمق التغيير الاجتماعي والأدوار المتغيّرة في المجتمعات الغربية على صعيد الجندر.
    وهناك ثمّة من يقول إن عازفات الكمان هذه الأيام، مع الاعتراف ببراعتهن وإتقانهن، تعوزهنّ العضلات، خاصّة عندما يتعاملن مع بعض أعمال مندلسون وبيتهوفن وتشايكوفسكي التي تتّسم بإيقاعاتها القويّة وضرباتها الفجائية والسريعة. وفي الغالب يأتي عزفهن رقيقا ورفيعا وبطيئا، وأحيانا تتحوّل الموسيقى المجلجلة والصاخبة في أصابع بعض العازفات إلى قطع تأمّلية وشاعرية يُخيّل لمن يسمعها أنها آتية من عوالم وفضاءات أخرى.

    Credits
    classicfm.com

    الاثنين، مايو 05، 2008

    فانغيليس: عرّاب موسيقى العصر الجديد

    تسمع موسيقى فانغيليس فتجذبك الفراغات المفتوحة والمساحات الواسعة فيها وكثرة أنغامها وألوانها وتأثيراتها الانفعالية (من إحساس موغل بالحزن إلى شعور غامر بالفرح إلى إحساس عميق بالعزلة أو الكآبة في بعض الأحيان)، بالإضافة إلى ثراء وتنوّع عناصرها الصوتية والسردية وحتى الفلسفية.
    وتحتشد في موسيقى فانغيليس "الذي يعني اسمه باليونانية الملاك الطيّب" أصوات وأصداء وظلال وأضواء وقطرات مطر وهالات وعواصف وأجراس وكواكب وغابات.. إلى آخره.
    وفي إحدى مقطوعاته التي استوحاها من رواية الطاعون لالبير كاميه نلمس شعورا عميقا بآلام الإنسان ومعاناته في صراعه مع القدر ومع الطبيعة.
    وربّما كان من أهم ما يميّز موسيقى فانغيليس فخامتها وطابع بعضها الملحمي. لكنْ حتى المقطوعات التي تتسم بقوّتها وملحميّتها لا تخلو أحيانا من بعض المقاطع التي تبعث شعورا بالعاطفة والرّقة.
    ومن الواضح انه يعتمد في موسيقاه إلى حدّ كبير على المؤثّرات الصوتية التي تنتجها الأجهزة الاليكترونية الحديثة. لكنه يتميّز عن غيره في كونه فنانا مثقفا وذا رؤية وعلى اطلاع واسع على الموسيقى الكلاسيكية وعلى موسيقى العالم بشكل عام.
    وطوال الخمس عشرة سنة الأخيرة لا أظنّ أن مقطوعة واحدة بلغت في شهرتها وانتشارها ما بلغته موسيقى "فتح الجنّة" التي ألفها فانغيليس لتكون المقدّمة الموسيقية لفيلم كولومبوس الذي أنتج لمناسبة مرور 500 عام على اكتشاف أمريكا.
    ومن الصعوبة أن نفهم سبب انتشار تلك المعزوفة والنجاح الساحق الذي حققته. هل هو موضوع الفيلم نفسه والذي أثار جدلا واسعا في حينه، أم الكلمات القليلة التي يردّدها الكورس في المقطوعة رغم أنها مبهمة وغير مفهومة وربّما لا تنتمي لأيّ من اللغات الحيّة المعروفة اليوم في العالم.
    ومنذ ظهورها، استخدمت موسيقى غزو الجنّة في العديد من البرامج الوثائقية والأفلام التسجيلية والإعلانات التجارية.


    كما اجتذبت العديد من المغنّين الذين صاغوا على لحنها كلمات لأغان حقّقت هي الأخرى نجاحا معتبرا، ومن بين هؤلاء المطربة دانا وينر والسوبرانو الايطالية – الكندية جيورجيا فيومانتي .
    وقبل فيلم كولومبوس وضع فانغيليس الموسيقى التصويرية لفيلم عربات النار، وهي الموسيقى التي عرّفته إلى العالم لأوّل مرّة وعزفت في ما بعد في حفل افتتاح دورة الألعاب الاوليمبية الشتوية في سراييفو عام 1974.
    كما ألّف الموسيقى التصويرية لبرنامج وثائقي عن كوكب المريخ موّلته وكالة الفضاء الأمريكية ناسا.
    وفي السبعينات وضع موسيقى مسلسل تلفزيوني تسجيلي مأخوذ عن كتاب الكون للعالم والفيلسوف كارل ساغان. وقد أرسل إليه المؤلف تسجيلات لأصوات من الفضاء الخارجي رصدتها الأقمار الاصطناعية كي تعينه على إتمام مهمّته.
    على المستوى الشخصي يعتبر فانغيليس (64 عاما) شخصا غامضا جدّا، إذ لا احد يعرف شيئا عن حياته الشخصية ولا أين يعيش نظرا لكثرة أسفاره وتنقلاته. كما انه لا يحبّ الأضواء وينفر من التلفزيون والصحافة.
    وفي إحدى مقابلاته النادرة التي أجرتها معه صحيفة الديلي تلغراف البريطانية يقول: إن الموسيقى موجودة في هذا الكون من قبل أن يخلق الإنسان، وأنا فهمت العالم من خلال الأصوات. إن لغتي كانت الموسيقى ومعلّمي كان الطبيعة".
    وفانغيليس لا يدخّن ولا يشرب كما انه لا يؤمن بجدوى الزواج أو إنجاب الأطفال.
    وعن نظرته للاسكندر الذي وضع مؤخرا موسيقى فيلم عن حياته يقول: الاسكندر جزء من هوّيتي كيوناني. لقد كان ذكيّا جدّا وأراد أن يوحّد العالم كما كان تلميذا لأرسطو".
    بعض النقاد يشبّهون فانغيليس بالراهب الروسي راسبوتين لغموضه وسحر شخصيّته. وقد زاره منذ سنوات صحفيان هولنديان في الاستديو الذي يملكه ووصفا ذلك المكان بأنه عبارة عن صالة ضخمة ُطلي فيها كل شيء باللون الأسود؛ الجدران والسقف والأرضية.
    وعلى الجوانب اصطفّت تماثيل من عاج ومصابيح أثرية وثريّات ذهبية وساعة قديمة ومجسّم لسفينة بريطانية مشهورة. بينما ازدانت الأرضية بمجموعة من السجّاد الفارسي الفاخر وعلقت على احد الجدران لوحة للرسّام الهولندي كارل ابل.
    إن إحدى سمات موسيقى فانغيليس هي أنها موسيقى تخاطب القلب والروح في المقام الأول. ولا يشغل بال الفنان، على ما يبدو، أن تحتلّ أعماله قائمة التسجيلات الأكثر مبيعا أو رواجا.
    ومن بين أعماله خصّص فانغيليس البوما اسماه "إل غريكو" وقد أراد من خلاله أن يكرّم مواطنه الرسّام اليوناني - الاسباني الشهير. كما خصّص ريع الألبوم لإنشاء صندوق مهمّته البحث عن لوحات إل غريكو وشراؤها وإحضارها لليونان.
    إن الثقافة اليوناينة غنيّة ومعطاءة، وقد منحت اليونان العالم العديد من الأسماء اللامعة في شتى ميادين الإبداع والعطاء.
    وفانغيليس هو بلا شك احد هؤلاء.
    وقد كافأه الاتحاد العالمي للفلكيين على اهتمامه بموسيقى الفضاء والعوالم الأخرى بأن أطلق اسمه على احد الكواكب الصغيرة التي تبعد عن الشمس حوالي 347 مليون ميل. ويقع "كوكب فانغيليس" على مقربة من ثلاثة كواكب أخرى تحمل أسماء بيتهوفن وموزارت وباخ.
    يمكن سماع موسيقى فتح الجنّة هنا ، أو هنا بتوزيع مختلف. كما يمكن الاستماع إلى عربات النار هنا ..