:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، يونيو 07، 2009

مونك والصرخة: قراءة مختلفة


"الصرخة" ليست فقط أشهر لوحات إدفارد مونك، بل هي أيضا إحدى أكثر لوحات الرسم الحديث شهرة وذيوعا.
وقد ظلّت هذه اللوحة دائما تحتفظ بمكانة مهمّة في الثقافة المعاصرة من خلال ظهورها الدائم والمتكرّر في كلّ مكان تقريبا.
والمعروف أن مونك رسم أربع نسخ من اللوحة، كما رسم واحدة أخرى بالأبيض والأسود اعتبرها بعض النقاد الأكثر قوّة وتأثيرا.
سو بريدو كتبت سيرة ممتازة للرسّام اختارت لها عنوان "إدفارد مونك: ما وراء الصرخة " ضمّنتها معلومات معمّقة عن حياة مونك المضطربة وروحه المعذّبة في سياق الحديث عن اللوحة الشهيرة وظروف ظهورها.
ولد إدفارد مونك عام 1863 في أوسلو عاصمة النرويج لعائلة عُرف عن أفرادها شدّة تديّنهم. والده كان طبيبا في الجيش دفعته مسيحيّته المتشدّدة إلى أن يزرع في نفس الصغير إدفارد بذور القلق الديني.
وقد كتب مونك في ما بعد في مذكّراته يقول: كانت ملائكة الخوف والندم والموت تحفّ بي منذ أن ولدت ولم تكفّ عن مطاردتي طوال حياتي. كانت تقف إلى جانبي عندما أغلق عيني وتهدّدني بالموت والجحيم وباللعنة الأبدية".
كان إدفارد شخصا قلقا ومسكونا بالهواجس والأفكار المؤرّقة.
عندما كان عمره خمس سنوات، توفّيت أمّه بالسلّ ثم تبعتها أخته التي لم تكن قد أكملت عامها الرابع عشر. وعندما بلغ الخامسة والعشرين مات والده ثم لم تلبث أخته الأخرى أن أصيبت بالجنون لتودع إحدى المصحّات العقلية.
في ما بعد، قرّر مونك أن يصبح رسّاما. فاستأجر "ستوديو" في الحيّ البوهيمي من أوسلو. وهناك وقع تحت تأثير هانس غيفر، وهو فيلسوف عَدَمي كان قد تعهّد بأن يدفع كلّ واحد من أبناء جيله إمّا إلى الانحلال أو الانتحار!
وقد فضّل مونك الخيار الأوّل، فانغمس في السنوات العشر التالية في حياة بوهيمية جرّب خلالها الكحول والابسنث والأفيون وعرف الحب والسيفلس والجوع والفقر.
في ذلك الوقت كتب هنريك ابسن مسرحيته المشهورة "الأشباح" التي سخر فيها من رياء المجتمع النرويجي وانحلاله وتفكّكه.
غير أن مونك كان متأثّرا بالروائي الروسي الكبير دستويفسكي. وقد قال لأحد أصدقائه ذات مرّة: لم يظهر من الرسّامين بعد من استطاع النفاذ إلى العوالم الموسيقية للروح والميتافيزيقيا واللاوعي بمثل ما فعل دستويفسكي في الرواية.
كان واضحا أن مونك يريد أن يرسم الروح. وفي عام 1890، رسم سلسلة لوحاته المشهورة "دوامّة الحياة" التي يصوّر فيها قصّة نموذجية لرجل وامرأة ينتقلان خلالها من الحبّ والعاطفة إلى الغيرة والحزن ثم أخيرا إلى القلق فالموت.
و"الصرخة" التي رسمها بعد ذلك مباشرة كانت ترمز إلى ذروة القلق، أي إلى النقطة النهائية لانكسار الروح.
في النسخة الثانية من اللوحة، وهي التي أصبحت مشهورة جدّا في ما بعد والتي تُقدّر قيمتها اليوم بأربعين مليون جنيه إسترليني، اختار مونك أن يرسم الشخص ذا الوجه الطفولي والذي لا يبدو إن كان رجلا أو امرأة واقفا أمام طبيعة تهتزّ بعنف وهو يحدّق في الناظر، فيما يطبق بيديه على رأسه الشبيه بالجمجمة ويفتح فمه بذهول ويأس.
وقد كتب إدفارد مونك في مذكّراته شارحا ملابسات رسمه لهذه اللوحة: كنت أمشي في الطريق بصحبة صديقين. وكانت الشمس تميل نحو الغروب عندما غمرني شعور بالكآبة. وفجأة تحوّلت السماء إلى أحمر بلون الدم. توقفت وأسندت ظهري إلى القضبان الحديدية من فرط إحساسي بالإنهاك والتعب. واصل الصديقان مشيهما ووقفت هناك أرتجف من شدّة الخوف الذي لا أدري سببه أو مصدره. وفجأة سمعت صوت صرخة عظيمة تردّد صداها طويلا في أرجاء المكان". وقد ظهرت حكايات عديدة تحاول تفسير ما حدث لـ مونك في تلك الليلة المشهودة.
بعض المحلّلين استوقفهم بشكل خاصّ منظر السماء في اللوحة وقالوا بأن هالة ما أو غسقا بركانيا قد يكون صَبَغ السماء والغيوم باللون القرمزي في ذلك المساء. ويحتمل أن يكون ذلك المشهد قد ترك
تأثيرا انفعاليا دراماتيكيا على مونك.

غير أن اللوحة استدعت قراءات أخرى مختلفة. فالبعض رأى فيها تصويرا لحالة الفوضى والرعب التي ارتبطت بإعلان فريدريش نيتشه عن موت الإله وبمفهوم شوبنهاور عن الخوف، خاصّة عندما قال إن القدرة التعبيرية للفنّ محدودة بل وعاجزة حتى عن أن تصوّر صرخة.
ويظهر أن مونك قرّر أن يرتفع إلى مستوى التحدّي، رغم أنه زعم في ما بعد انه لم يطّلع على كلام شوبنهاور إلا في فترة متأخّرة من حياته.
وقد اجتذبت اللوحة حتى علماء الفلك الذين تنافسوا في محاولة كشف سبب اضطراب وحمرة السماء فيها. بعضهم قال إن الأجواء الحمراء بلون الدم في اللوحة لم تكن سوى تمثيل واقعي لظاهرة غروب الشمس المتوهّج التي نتجت عن ثوران بركان كراكاتوا الاندونيسي عام 1883م.
ويقال انه تمّ رصد البركان الاندونيسي آنذاك في أنحاء بعيدة ومتفرّقة من العالم. وقد رأى سكّان بنسيلفانيا ولندن خطوطا من نار ذهبية وقرمزية في أفق السماء تشبه تلك التي تظهر في اللوحة.
وتشير سجلات تلك الفترة إلى أن بعض العلماء رصدوا وهج الشفق الأحمر في كريستيانيا وغيرها من مدن النرويج.
وثمّة احتمال أن النرويج شهدت بالفعل حالات فلكية ومناخية مثل تلك في أواخر القرن التاسع عشر. غير أن هذا النوع من التفسيرات الحرفية لا ينطبق على رسّام مثل مونك الذي كان أسلوبه تعبيريا أكثر منه وصفيا.
تقول المؤلفة في سياق حديثها عن اللوحة إنها تعرّفت على المكان الذي رسم فيه مونك "الصرخة". وهو تّل يقع شرق أوسلو ويوفّر إطلالة شاملة على منطقة فيورد السياحية.
وعلى جانب ذلك التلّ تقع مصحّة الأمراض العقلية التي كانت تُحتجز فيها لورا شقيقة الفنان. ومن المؤكّد أن مونك كان يذهب إلى هناك من وقت لآخر لزيارة شقيقته.
ورغم أن الكاتبة تمتنع عن تأكيد أيّ استنتاجات بشأن هذه النقطة، فإنها تشير إلى أن صراخ الحيوانات التي كانت تُذبح في ذلك المكان كان يختلط بصرخات المجانين في المصحّة المجاورة. ويقال بأن تلك الأصوات كانت من أفظع ما يمكن أن يسمعه الإنسان أو يتحمّله.
وأيّا ما كانت دقّة هذه الرواية، فإن ممّا لا شكّ فيه أن "الصرخة" تستثير أقوى المشاعر والأحاسيس في نفس كلّ من يراها. وهناك من علماء النفس من يقول إنها في الواقع إنما تصوّر مونك نفسه وهو في حالة كرب وألم، وأن جوّ اللوحة ما هو إلا انعكاس لما مرّ به الرسّام في حياته العائلية من مرض وفقر وموت وجنون.
ورغم أن اللوحة كانت معروفة جيّدا زمن مونك، فإنها لم تكتسب مكانتها الثقافية والرمزية الكبيرة سوى في النصف الثاني من القرن العشرين الذي شهد تطوّرا كبيرا في تكنولوجيا الطباعة أدى إلى ازدياد شهرة اللوحة وانتشارها. وبينما قد لا تتوفر للكثيرين إمكانية الذهاب إلى اوسلو لمعاينة اللوحة الأصلية، فإن الملايين رأوا صورتها مستنسخة بألوان كاملة على الانترنت وفي غيرها من وسائط الإعلام والنشر.
لكن الشهرة الكبيرة التي حظيت بها "الصرخة" على مرّ السنين كان لها تأثير عكسي، إذ بدا أن اللوحة أخذت تفقد شيئا فشيئا بعضا من جاذبيّتها وبريقها القديم.
فما كان ذات يوم تعبيرا فلسفيا بليغا عن ظاهرة القلق الوجودي، أصبح اليوم مجرّد صورة نمطية تشير إلى ضغوط وتعقيدات الحياة الحديثة.
يقال أن "الصرخة" هي أشهر لوحة في النرويج. وهذا صحيح. لكن ثبت أكثر من مرّة أنها على درجة من الضعف والهشاشة بما لا يمكن تخيّله. ففي عام 1994، أي مع بداية افتتاح الاولمبياد الشتوي في ليلهامر بالنرويج، اقتحم مجموعة من اللصوص المتحف الوطني وقاموا بتفكيك اللوحة والهرب بها. ثم طالبوا بفدية قدرها مليون جنيه استرليني مقابل إرجاعها.
وبعد ثلاثة أشهر عُثر على اللوحة بحالة سليمة في غرفة بأحد فنادق جنوب أوسلو.
وفي أغسطس من عام 2004، تمّت سرقة نسخة أخرى من "الصرخة" من متحف إدفارد مونك. حدث هذا في وضح النهار وتحت تهديد السلاح. وتخيّل الكثيرون وقتها أن اللوحة يمكن أن تكون قد خُبّئت في الظلام في مكان ما خلف أبواب مغلقة وتركت هناك تصرخ بصمت بانتظار أن يتقدّم أحد لدفع الفدية المطلوبة. لكنْ في أغسطس عام 2006، عادت "الصرخة" مرّة أخرى إلى الظهور في نشرات الأخبار عندما أعلنت الشرطة النرويجية عن نجاحها في استعادة اللوحة دون أن تُمسّ بضرر كبير.
من الأمور اللافتة للاهتمام أن أكثر الناس احتفاءً باللوحة هم علماء النفس والفلاسفة الوجوديون والمعالجون الروحانيون الذين رأوا في مضمونها مادّة خصبة للتنظير والنقاش والتأمّل.
واليوم تعتبر "الصرخة" واحدة من ثلاث لوحات هي الأكثر ظهورا في الإعلانات وفي السينما والتلفزيون. واللوحتان الأخريان هما الموناليزا لـ دافنشي وتمثال ديفيد لـ مايكل أنجيلو. "مترجم"