:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، أبريل 28، 2012

توكاتا اند فيوك

آثار دارسة، منظر لقلعة مظلمة أو حصن مهجور منذ آلاف السنين، إحساس بالصدمة أو الخوف أو الترقّب أو الحزن..
هذه هي الصور والانفعالات التي قد يثيرها في نفسك سماع هذه المقطوعة المدهشة من عصر الباروك.
"توكاتا اند فيوك إن دي ماينر" لـ يوهان سيباستيان باخ هي ولا شكّ أكثر المقطوعات الموسيقية إثارة للرهبة. كما أنها عمل آخر يجسّد عبقرية وإبداع باخ وروعة وعمق موسيقاه المنقطعة النظير.
الدراما القويّة والتأثير الانفعالي لهذه الموسيقى لا يمكن وصفهما. وهناك شبه اتفاق على أنها أكثر القطع الموسيقية استخداما في السينما والتلفزيون، بل وحتى في العاب الفيديو وفي نغمات الهاتف الجوّال.
التوكاتا والفيوك هما نوعان من الارتجال الموسيقي باستخدام آلة موسيقية بغرض إظهار براعة أسلوب العازف وتمكّنه. وقد ظهر الأسلوبان أوّلا في فينيسيا خلال عصر النهضة الايطالي، ثم انتقلا بعد ذلك إلى ألمانيا حيث خضعا لكثير من الصقل والتطوير على يدي باخ.
كتب باخ هذه المقطوعة قبل أكثر من ثلاثمائة عام. وكان قد ألّفها في الأساس كي تُعزف على آلة الأرغن، وقيل الهاربسيكورد أو الكمان. غير أنها عُزفت في ما بعد بآلات مختلفة، وأحيانا بأوركسترا كاملة.
من أشهر الأعمال السينمائية التي وظّفت هذه المعزوفة فيلم فانتازيا الذي ظهر قبل سبعين عاما. وقد عزفها للفيلم ليوبولد ستوكوفسكي بتوزيع أهّلها لأن تصبح أفضل القطع الموسيقية العالمية توزيعا.
كما وزّعها للأوركسترا عدد من أشهر الموسيقيين في العالم، من أشهرهم اوجين اورماندي وهنري وود.
عبقرية باخ لم تُعرف إلا بعد رحيله بمائة عام. وهو كان مشهورا بشيء آخر غير الموسيقى. كان رجلا كثير الإنجاب. وعندما توفّي كان قد أنجب عشرين طفلا من زيجتين وأطلق اسمه الأوّل، أي يوهان، على خمسة منهم.
كان باخ يؤمن بأن الهدف النهائي للموسيقى هو تمجيد الخالق وإنعاش الروح وتهذيب الوجدان. وموسيقاه تتضمّن مستويات مذهلة من التعبير والقوّة بحيث يصبح من المستحيل أن لا تحبّها.
تأثير يوهان سيباستيان باخ على مسار تاريخ الموسيقى كان هائلا. وكلّ مؤلف موسيقيّ ظهر بعده تعلّم منه شيئا.
باخ يختصر عصرا بأكمله. وكلّ الأساليب والأشكال الموسيقية التي كانت شائعة في زمانه استطاع أن يطوّرها ويبلغ بها ذرى الكمال.

الخميس، أبريل 26، 2012

خطوط وألوان

رافائيل، حلم الفارس، 1504

يُعتبر رافائيل احد أعظم الرسّامين الذين أنجبهم عصر النهضة الايطالي. وقد ولد في أوربينو عام 1483 وتلقّى تعليما مبكّرا في الرسم على يد والده، الذي كان رسّاما هو الآخر.
في عام 1504 انتقل رافائيل إلى فلورنسا، حيث درس أعمال كبار الرسّامين آنذاك مثل ليوناردو دافنشي ومايكل أنجيلو، وتعلّم أساليبهما في التعامل مع الضوء والظلّ وعلم التشريح والعمل الدرامي والحركة.
من أشهر أعمال رافائيل لوحته الرمزية بعنوان "حلم الفارس". وهي تصوّر فارسا من العصور الوسطى وهو نائم بينما تقف عن يساره ويمينه امرأتان.
المرأة إلى اليسار ترمز إلى الفضيلة. وهي ترتدي ثياب أثينا إلهة العدالة اليونانية وتمسك بإحدى يديها كتابا وبالأخرى سيفا، بينما تقف بموازاة طريق يقود إلى جبل صخري يظهر في نهايته منحدر بُنيت على أطرافه قلعة عالية. المعنى الذي قصده رافائيل هو أن الطريق الذي يؤدّي إلى الفضيلة من الصعب سلوكه لأنه شاقّ ووعر.
المرأة إلى اليمين ترتدي ثوبا ملوّنا وعقدا من اللؤلؤ. وهي لا تقدّم للفارس سوى زهرة صغيرة. والطريق الذي تقف بمحاذاته يمرّ عبر تلال ومروج وينتهي بمنزل فاره يقع على شاطئ البحر. والمعنى الكامن هنا هو أن الطريق إلى الحبّ أسهل بكثير من الطريق المؤدّي إلى الفضيلة.
رافائيل استخدم في اللوحة وسيلة جديدة وغير عاديّة وهي انه رسم الجبال في الخلفية بنفس لون السماء كي يعطي وهما بالمسافة البعيدة والأفق النائي.
هناك نظريات متعدّدة حول ما ترمز إليه اللوحة. بعض المؤرّخين يعتقدون أن الفارس النائم يمثل الجنرال الروماني سيبيو افريكانوس الذي رأى في الحلم انه مضطرّ للاختيار بين الفضيلة وبين متعة الحبّ.
غير أن المرأتين في اللوحة لا تظهران كمتنافستين بالضرورة. فالكتاب والسيف والزهرة، مجتمعةً، كثيرا ما ترمز إلى الصفات المثالية التي ينبغي أن يحوزها الفارس. فهو مقاتل في الأساس. لكنه بنفس الوقت عالم وعاشق.
المعروف أن رافاييل توفّي في روما في يوم عيد ميلاده السابع والثلاثين، أي في ابريل من عام 1520م.

كيس فان دونغن، بذور الخشخاش، 1919

في أواخر عشرينات القرن الماضي، بدأت النساء في أنحاء متفرّقة من أوربّا يتمتّعن بحرّية واستقلالية اكبر، خاصّة في أمور اللباس والمظهر.
وهذه اللوحة تُظهر التغيير الذي طرأ على أوضاع المرأة في تلك الفترة. والمرأة فيها هي نموذج ورمز للمرأة الجديدة التي أصبحت ترتدي التنانير القصيرة والألوان الزاهية. الموديل هنا ترتدي فستانا رماديا فاتح اللون وقبّعة عصرية وذات ألوان حمراء مع مكياج سميك للعين. العينان لوزيتان وواسعتان والنظرات مواربة والعنق طويل والشفتان صغيرتان حمراوان. وهناك احتمال بأن المرأة كانت واحدة من مجموعة من النساء الباريسيات اللاتي كنّ يعشن حياة منفلتة في فترة ما بين الحربين العالميتين.
من أهم ما يجذب الانتباه في اللوحة الألوان التي تكاد تتقافز منها معطية المرأة تأثيرا ثلاثي الأبعاد.
ولد كيس فان دونغن في إحدى ضواحي روتردام بـ هولندا عام 1877م. وفي سنّ السادسة عشرة درس في أكاديمية الفنون بـ روتردام ثم انتقل إلى باريس التي قرّر أن يقيم فيها بشكل دائم. ولم يلبث أن أصبح جزءا من المشهد الفنّي في مونمارتر.
في بداياته، كان الرسّام متأثّرا بأعمال هنري ماتيس ورموز المدرسة الوحشية في الرسم. كان أتباع الوحشية يستخدمون الألوان الزاهية بطريقة تجمع ما بين الانطباعية والنُقطية. وأصبح هذا النمط الجديد يحظى بشعبية كبيرة في أوساط النخبة الذين بدءوا يستعينون بالفنّانين الوحشيين لرسم بورتريهات لهم. ومن بين هؤلاء ملك بلجيكا ليوبولد الثاني والاغا خان والممثّل موريس شوفالييه والممثّلة بريجيت باردو وغيرهم.
كان فان دونغن رسّاما غزير الإنتاج. كان يعتقد أن الرسم يطفئ رغبة دنيوية عند الإنسان. وفي ما بعد، ربطته صداقة وثيقة مع بيكاسو. وبعد الحرب العالمية الأولى اكتسب شعبية إضافية. وقد عُرف عنه كثرة أسفاره. ودفعته الرغبة في اكتشاف الشرق للذهاب إلى مصر والمغرب. ورسم من وحي رحلته تلك بورتريهات فاتنة لنساء مع ملابسهنّ ذات الزخارف الشرقية.
كان فان دونغن إنسانا ساحرا مع إحساس بالمرح وحبّ الدعابة. وقد اشتهر بلحيته الحمراء وبملابسه التي تشبه ملابس الصيّادين. ومن ناحية أخرى، كان نموذجا للفنّان البوهيمي وكان أسلوب حياته مثارا للجدل. الحفلات الباذخة التي كان يقيمها في محترفه ليلا كان يحضرها المشاهير من نجوم السينما والسياسة والأدب والفنّ.
واليوم تباع لوحاته بأرقام قياسية كما أن اسمه متداول كثيرا على الانترنت. وتوجد بعض أعماله في مجموعات فنّية خاصّة في نيويورك وجنيف وموسكو، بل وحتى في إيران وروسيا.
عاش كيس فان دونغن حياة طويلة ومثمرة. وتوفّي في مونت كارلو عام 1968 عن واحد وتسعين عاما.

جان بيرو، في المقهى، 1892

ابتداءً من نهايات القرن التاسع عشر، أصبحت المقاهي ملتقى يجمع أصنافا مختلفة من الناس، وخاصّة الأدباء والشعراء والرسّامين. كان هؤلاء يتردّدون على المقاهي لتمضية بعض الوقت في الحديث مع زملائهم أو لتناول الشراب، وأحيانا للبحث عن مواقف وقصص إنسانية أو اجتماعية تصلح للرسم أو الكتابة.
الرسّام الفرنسي جان بيرو اشتهر بلوحاته التي تصوّر مظاهر من الحياة اليومية في باريس مثل أجواء المقاهي ومناظر الشوارع المزدحمة والحفلات الموسيقية التي تقام في الهواء الطلق.
في هذه اللوحة يرسم بيرو رجلا وامرأة يجلسان في مقهى وهما منشغلان بالنظر إلى شيء أو شخص ما يقع خارج نطاق الصورة. الكرسيّ المائل قليلا أمام الطاولة يوحي بأن الرجل انتقل من ذلك المكان كي يصبح أكثر قربا من المرأة، أو أن شخصا ثالثا كان يجلس هناك ثم ترك مكانه لبعض الوقت، ما قد يفسّر تحوّل انتباه الرجل والمرأة.
مهارة الرسّام تبدو واضحة في رسم تفاصيل الطاولة الرخامية والكأسين نصف المملوئين والدخان المتصاعد من سيجارة الرجل. ومن الملاحظ أن بيرو تعمّد أن لا يرسم الرجل والمرأة متواجهين كما جرت العادة في مثل هذه المناظر، للإيحاء بإمكانية وجود حالات ومواقف أكثر إثارة للاهتمام من مجرّد تبادل الحديث بين شخصين.
ولد جان بيرو في روسيا وهاجر مع عائلته إلى فرنسا عندما كان ما يزال طفلا. وفي بدايات حياته درس القانون بناءً على رغبة والده الذي كان يعمل نحّاتا. لكنه في ما بعد فضّل أن يتخّصص في الرسم، فدرس على يد ليون بونا وتأثّر بأسلوب الانطباعيين. وفي مرحلة تالية تبنّى أسلوبا وسيطا بين الفنّ الأكاديمي للصالون وفنّ الانطباعيين.
كان جان بيرو بارعا بشكل خاصّ في رصد وتسجيل التفاصيل. وقد تعزّزت مهارته تلك مع ظهور التصوير الفوتوغرافي، الذي وظّفه كي يضفي على مناظره عن الحياة اليومية الباريسية مزيدا من الحيوية والأناقة.
في وقت لاحق، رسم بيرو مواضيع دينية حديثة. لكن أعماله الأكثر شهرة هي تلك التي رسمها لباريس في أيّام مجدها.

بيير بوفي دو شافان، الحلم، 1883

الإشارات إلى الأحلام قديمة قدَم الأدب نفسه. ملحمتا غلغامش والإلياذة، على سبيل المثال، تصفان أحلام الشخصيات الرئيسية فيهما ومعاني تلك الأحلام.
غير أن الأحلام كموضوع في الرسم لم تظهر سوى في وقت لاحق، وبالتحديد في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين عندما أدخلت كلّ من الرمزية والتعبيرية صور الأحلام إلى الفنون البصرية.
في هذه اللوحة، يرسم بيير دو شافان رجلا نائما بجوار شجرة في طبيعة مثالية ذات ليلة مقمرة وصافية، بينما تطير فوقه ثلاث نساء. الأولى تحمل الورود في يديها، في إشارة إلى الحبّ. والثانية تلوّح بإكليل الغار الذي يرمز للمجد. بينما تنثر الثالثة حوله القطع النقدية التي ترمز إلى الغنى والثروة.
من الواضح أن الرجل يحلم بالحبّ والثروة والمجد. لكن هل يتحقّق حلمه؟
المنظر الطبيعي في اللوحة مرسوم باقتصاد واضح. الأشكال مبسّطة للغاية ومرسومة في مناطق واسعة من الألوان الصلبة. وقد استخدم الرسّام مجموعة محدودة من الألوان الهادئة والساطعة بتأثير ضوء القمر.
الحركة الرومانسية كانت تؤكّد على قيمة العاطفة والإلهام. والرؤى، سواءً كانت أحلاما طبيعية أو نتيجة تعاطي المواد المُسْكرة، كانت تُستخدم كوسيلة لإظهار قدرات الفنّان الإبداعية.
غير أن الأحلام بلغت مستوى جديدا من الوعي في العالم الغربي بسبب نظريات سيغموند فرويد، الذي عرض لمفهوم العقل الباطن كحقل للبحث العلمي. وكان لـ فرويد أثر كبير على سورياليي القرن العشرين الذين ركّزوا في أعمالهم على اللاوعي بوصفه أداة للإبداع.

Credits
en.wikipedia.org

الثلاثاء، أبريل 24، 2012

طبيعة نيستيروف

صورة الشمال الروسي "الأورال وسيبيريا" كما ينقلها الأدب الكلاسيكي الروسي "تولستوي وشولوكوف مثلا" هي صورة لطبيعة قاسية وغير مضيافة. الخضرة الباردة والقاتمة والمملّة في تلك المناطق تثير إحساسا بالكآبة وأحيانا بما هو اخطر، أي الموت.
أذكر أنني شاهدت قبل سنوات فيلما بعنوان ملحمة سيبيريا للمخرج الروسي اندريه كونشلوفسكي. ومعظم أحداث الفيلم تجري في تلك المناطق النائية والباردة والمنعزلة التي يتعايش فيها الناس مع البرد القاتل ومع الأشباح والظلام.
غير أن صور ميخائيل نيستيروف (1862-1942) تقدّم صورة مختلفة عن تلك الأمكنة. فهو يضفي على الطبيعة هناك قدرا من القداسة والروحانية والنبل والشاعرية.
نيستيروف يصوّر في لوحاته أمسيات الخريف وبساطة الناس والعلاقة المقدّسة التي تربط الإنسان بالطبيعة. وهو يستلهم صوره تلك من التقاليد الأرثوذكسية، وخاصّة النبوءة التي تقول بعودة البشر إلى الأيّام الخوالي عندما كان الناس والحيوانات يتعايشون في رحاب الطبيعة بسلام وانسجام.
في إحدى لوحاته بعنوان "الثعلب الصغير"، يرسم نيستيروف ثلاثة رجال مسنّين يجلسون على تلّ أمام إحدى غابات الصنوبر وبالقرب من احد الأنهار. حبّ هؤلاء الرجال الطيّبين وعطفهم يجتذب ثعلبا خرج لتوّه من الغابة الكثيفة المجاورة باحثا عن طعام. والثعلب لا يبدو حذرا أو خائفا، بل يلتقط الطعام من أيديهم بأمان.
هذه اللوحة تحتوي على رموز ربّما لا نعرفها. لماذا مثلا اختار الرسّام الثعلب دون غيره من الحيوانات؟ هل هناك دلالة معيّنة، دينية مثلا؟
وعلى أيّ حال، فهذه اللوحة تجسّد نظرة الفنّان إلى الطبيعة والرابطة الروحية ما بين الطبيعة وبقيّة المخلوقات. كما أنها بمنظور هذه الأيّام تصلح لأن تكون رمزا لحماية البيئة والمحافظة على التوازن ما بين مكوّنات الطبيعة المختلفة.
في لوحة أخرى له بعنوان "الناسك"، يرسم نيستيروف راهبا عجوزا يمشي في طبيعة خريفية. وقد استوحى هذه الصورة من إحدى شخصيّات دستويفكسي في رواية "الإخوة كارامازوف" عن ناسك طيّب وذي قلب رحيم.
نيستيروف عُرف بملاحظته الدقيقة للطبيعة التي أصبحت معبده الخاصّ والمقدّس. ومناظره، كما هو واضح، تخلو من الإبهام والتعقيد الكثير.
بالإضافة إلى موهبته الفنّية، كان هذا الرسّام يتمتّع بقدرة فائقة في الكتابة. يقول في مذكّراته التي سجّلها قبيل وفاته موضّحا فلسفته الإنسانية: أفضّل دائما أن ارسم طبيعة بسيطة وأشخاصا يعيشون حياتهم الروحية والداخلية في أحضان الطبيعة. إنّني أؤمن وأشعر بأن كلّ مخلوق في هذا الكون له روح وشعور ووعي".
رسم نيستيروف الطبيعة كثيرا. لكنّه أيضا رسم العديد من البورتريهات لوالدته وزوجتيه وابنته ولبعض مشاهير عصره مثل تولستوي ومكسيم غوركي وغيرهما.

الأحد، أبريل 22، 2012

كوابيس كافكا

إن كنت تتطلّع لقراءة رواية فيها أشياء من دستويفكسي ونيتشه وبيكيت وسارتر في وقت واحد، فإن هذه الرواية قد تلبّي طموحك. "القلعة" هي أجمل روايات فرانز كافكا، وربّما أكثرها إثارة للمشاعر. صحيح أن المحاكمة والمسخ مليئتان بعمقهما الخاصّ وبحزنهما المعقّد، لكنهما لا تتركان في النفس مثل هذا الإحساس اللاذع بغربة الإنسان وعبثية الحياة.
"القلعة" هي قصّة (ك)، الذي يدّعي أنه مسّاح أراض أرسله شخص مجهول لغرض ما غير معروف إلى القلعة. القلعة نفسها مكان مجهول. كما أن القارئ لا يعرف على وجه التحديد ما الذي يُفترض أن ينجزه (ك) هناك.
السرد في هذه الرواية لا يتحرّك نحو نهاية أو غاية واضحة. وبدلا من ذلك، يقدّم كافكا للقارئ سلسلة من الإحباطات وهو يتابع محاولات (ك) المتكرّرة كي ينجز عمله. ومع ذلك لا يستطيع أن يتحرّك أبعد من محيط القلعة الشبحي.
(ك) لا يُسمح له أبدا بدخول القلعة. كما انه لا يستطيع العودة إلى بيته. ويُترك لوحده وهو يواجه ثنائيات اليقين والشك، الأمل والخوف، في كفاحه الذي لا ينتهي وهو ينتقل من متاهة لأخرى.
بدأ كافكا كتابة "القلعة" عام 1922م. ولم ينتهِ منها أبدا. ومع ذلك، فهذه الرواية، آخر رواياته الثلاث العظيمة، تستخلص نتائج رائعة تجعلها تبدو كاملة بشكل غريب. في الاستهلال المشهور للرواية، فإن القلعة حاضرة بشكل مشئوم حتى في غيابها. "في وقت متأخّر من الليل وصل (ك). كانت القرية قابعة في عمق الظلام والثلج. التلّة التي تقوم عليها القلعة يحجبها الضباب والعتمة. لم يكن هناك أدنى بصيص ضوء يمكن أن يكشف عن وجودها. وعلى الجسر الخشبيّ المؤدّي إلى القرية، وقف (ك) لفترة طويلة وهو يحدّق في الفراغ الوهمي فوقه". الوصف القوطي للمكان طوال الرواية مثير للمشاعر على نحو لا يطاق. وهو يلمّح إلى وجود عناصر من السرّية وربّما الخداع. لكن رغم الظلمة، فإن (ك) يعلم بوضوح عن وجود القلعة بدليل تحديقه الطويل في الظلام فوقه.
كافكا يجلب القارئ إلى منطقة باردة وغير مضيافة ولا يوجد فيها ضوء سوى بالكاد. ولا بدّ وأن يشعر المرء بكمّية الجهد البدني المبذول للتعامل مع هذا المكان الذي تحيطه الثلوج الكثيفة من كلّ جانب.
في صباح اليوم التالي، يرى (ك) القلعة فوقه واضحة المعالم في الهواء. ثم يكتشف أنها مجرّد بلدة بائسة المظهر تتألّف من كومة من المباني الصغيرة المحشورة معا. وميزتها الوحيدة، إن وجدت، تتمثّل في أنها مبنيّة من الحجر. "كان الجبس قد تقشّر منذ فترة طويلة والحجر يبدو أنه ينهار".
جوّ ومزاج الرواية اللذان يصعب وصفهما هما اللذان يمنحانها سماتها الخاصّة. ومع ذلك فإنك لن تفهمها على وجه التحديد، ولن تستطيع التعبير تماما عن ما تعنيه. وهذا ما يفعله كافكا. انه يزعزع استقرار القارئ بالكتابة عن الأشياء المألوفة في الحياة اليومية. ولكنّه يموّهها بحيث تبدو لنا الحياة مثل حلم غريب أو قصّة من قصص الخيال. وعندما تغلق صفحات الرواية وتعود إلى الواقع، ستتجلّى أمام عينيك كافّة مشاعر اليأس التي اعتدنا أن نستبعدها كي نستمرّ في أداء أعمالنا اليومية المعتادة.
هذا الكتاب سيجعلك حزينا بسبب الأشياء المفقودة في حياتك. إننا شهود على نضال (ك) غير المجدي من اجل الاعتراف والاحترام. كيانه كلّه يتقوّض من قبل أولئك الذين لا يعترفون بمهمّته أو حقّه في أن يكون له مكان. كافكا يأخذك بعيدا عن حياتك الخاصّة بكلّ تعبها ومعاناتها، فقط لكي يعيدك محطّما إلى واقع جديد يتعيّن عليك فيه أن تواجه بعض هذه الحقائق التي كدت تنساها.
في القلعة، يتمّ تضليل البطل باستمرار ويعامَل بطريقة غير إنسانية. إنه شخص عاجز بلا حول ولا قوّة ومستعبد لقوى خارجة عن إرادته ولا يستطيع الفكاك من سيطرتها. كما انه لا يعرف مصدر تلك القوى التي تضطهده وتهمّشه. القارئ الحديث يجد في هذه الرواية صدى لواقعه هو، فهو أيضا يشعر بالعجز في مواجهة انهيار النظم المصرفية وتخريب المؤسّسات المالية وانتشار الفساد، والذي يؤثّر على حياته كثيرا. إننا لا نعرف أيضا أين تقع السلطة المسئولة عن هذا الفساد، ما يضفي على الواقع طابعا كابوسيّا.
هل القلعة كناية عن الله؟ الدين؟ البيروقراطية الحكومية والسياسية؟ الوطن؟ السلطة؟ إن من الخطأ أن ننظر إلى القلعة، أو حتى المحاكمة، باعتبارها معنيّة بالبيروقراطية وغياب العدالة. مثل هذه القراءة تقلّل من أهمّية مشروع كافكا الفنّي، بل وتختزله بالضرورة. كافكا يكتب عن أشياء بسيطة ومهمّة: مشاعر الوحدة والألم والتوق إلى صحبة البشر وحاجة الإنسان إلى الاحترام والفهم.
لم يكن كافكا يشعر انه يعيش في وطن. وكان يشتكي دائما من غياب إحساسه بالهويّة. ومن المرجّح أن كلّ هذه الأشياء، أو بعضها، تمثّل أجزاء من الطبيعة المتعدّدة الجوانب لهذه الرواية المزعجة.
بطل كافكا المأساوي لا يمكن اعتباره بطلا على الإطلاق. فهو دائما يعمل لخدمة أهواء الآخرين، سواءً كانوا مسئولين، أو قضاة، أو سلطة .. إلى آخره. والقلعة يمكن أن تكون رمزا للقوى التي تتحكّم في مصائرنا وتهمّشنا وتمنع نموّنا، سواءً كانت تلك القوى سياسية أو اجتماعية أو سيكولوجية أو عاطفية. وهذا هو السبب في أننا يجب أن نقاومها دائما ونسعى لكشف الصدوع والثغرات في بُنيتها الاستبدادية. الألم والحيرة اللذان يشعر بهما (ك) هما صدى لألم وحيرة أولئك الذين يحسّون بأن هذا العالم يثقل كاهلهم ويضغط على أنفاسهم.
ربّما تكون هذه الرواية أعظم أعمال كافكا. وهي تجسّد بوضوح حكمته المأثورة في أن الكتابة يجب أن تكون فأسا يكسر البحر المتجمّد في دواخلنا.
كافكا هو الحقنة التي تسحب دم القارئ. وهو القلم الذي يكتب بذلك الدم. "مترجم".