:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أكتوبر 03، 2013

موديلياني: ما وراء الأسطورة

لم يعد يُنظر إلى الأعمال الفنّية كأشياء منفصلة وذات حياة خاصّة بها. فاللوحة في النهاية هي إسقاط سيكولوجي لروح الإنسان الذي أبدعها. وكلّ ضربة فرشاة وكلّ لون وخطّ يكتسب معناه الحقيقيّ من مزاج الفنّان عندما وضع لونا هنا أو خطّا هناك، وعندما فضّل لونا على آخر، أو عندما قرّر، مثلا، أن يرسم منظرا طبيعيا بدلا من صورة إنسان.
مزاج الفنّان واختياره لأدواته وموضوعه وتكنيكه وخطوطه وألوانه كلّها عناصر مهمّة في دراسة النسيج الحميمي لروحه. ولأننا لا نعرف سوى القليل عن هذه العناصر، فإن موقفنا ونحن نقف أمام عمل رسّام كبير ليس موقف إعجاب بالفنّان نفسه، وإنّما بعمله كما لو أن العمل منفصل عن الفنّان.
هذا التمهيد ضروريّ، وعلى أساسه سنشرع في هذه الدراسة السيكولوجية الموجزة عن حياة وفنّ أميديو موديلياني الذي يُعتبر واحدا من أكثر فنّاني الحداثة شهرة وغموضا.

ولد موديلياني في ليفورنو بإيطاليا في يوليو من عام 1884 وقضى طفولته مريضا، الأمر الذي أدّى إلى انقطاعه عن الدراسة. وفي سنّ السادسة عشرة، كان يبصق دماً، ومع الدم أجزاء من رئته المريضة. وقد أرسلته أمّه إلى مدرسة الرسم في روما. وكان ذلك عاملا مهمّا في أن الصبيّ أصبح يرى في الفنّ عالما آخر أقوى من عالم الموت. وفي عام 1906، ذهب إلى باريس وأدهشه سيزان، كما فتنه بيكاسو الذي كانت عبقريته تلمع مثل نيزك مضيء في سماء فرنسا.
وعندما عرض موديلياني لوحاته الأولى في صالون المستقلّين، تمّ إغلاق الغاليري من قبل الشرطة بحجّة أن رسوماته العارية تخدش الحياء. وتلك كانت الفترة البطولية في حياة الرسّام. كان موديلياني يعرف انه سيموت قريبا وكان يدرك أن هناك طريقة وحيدة لهزم الموت، وهي أن يعيش بوتيرة سريعة. كان يحاول أن يختزل عدّة حَيَوات في حياة واحدة. وكان يرسم باستمرار. وبين نوبات السعال العنيف وإدمانه الشراب والمخدّرات، كان يحاول أن يشبع غريزته الجنسية مع اكبر عدد ممكن من النساء اللاتي ينظرن إلينا من لوحاته بأعينهنّ اللوزية الضيّقة وملامحهنّ الهشّة والدقيقة.
كان كلّ يوم من سنوات كفاح موديلياني الأربع عشرة تحت لعنة المرض والفشل والفقر يشبه اليوم الذي قبله. كان يستيقظ متأخّرا. أشعّة الشمس كانت الشيء الوحيد النظيف الذي يدخل غرفته. كان رأسه يؤلمه كلّ صباح مع نوبات سعال وبرد ورجفة. وكلّ شيء في غرفته كان رماديّا: لحاف السرير والمناشف والجدران التي أكلتها الرطوبة، وحتى الوجه المنعكس في المرآة.

في عام 1918، حصل موديلياني على دخل بسيط بعد أن تمكّن من بيع خمس عشرة من لوحاته إلى صديق. ثمّ ذهب بعد ذلك إلى جنوب فرنسا. وعندما عاد بعد أشهر إلى باريس، دخل احد المستشفيات بسبب تدهور حالته الصحّية. وتوفّي في يناير من عام 1920. وبعد ساعات من موته، أقدمت خطيبته جان إيبيتيرن، في خطوة رومانتيكية نادرة، على الانتحار قفزا من نافذة شقّتهم.
وعندما توفّي موديلياني بدأت أسطورته في التشكّل. وقد تنحّت الوحوشية والتكعيبية جانبا لإفساح المجال أمام القادم الجديد الذي كان يرسم النساء بأعناق تشبه أعناق الإوز.
ترى كيف يمكن لعلم النفس أن يلقي بعض الضوء على شخصية موديلياني المعقّدة؟ وهل يمكن أن توفّر الرموز في لوحاته بعض الأدلّة عن طبيعة تهويماته ودوافعه الانفعالية؟
إحدى الوسائل الأكثر انتشارا في هذا الشأن هي رسومات الشكل الإنساني. وهذه الطريقة تستند إلى فكرة مؤدّاها أن شخصيّاتنا تكشف عن نفسها من خلال أفكارنا وكلماتنا وإيماءاتنا وحركاتنا وأفعالنا. فعلى سبيل المثال، اطلب من أيّ إنسان أن يرسم شخصا، وسيرسم شخصا يتماهى معه لا إراديّا. وفي النهاية فإن صورة الشخص المرسوم ما هي إلا صورة الشخص الذي رسمه كما تتجسّد في لاوعيه. أي أن الشخص المرسوم يرتبط بحميمية مع الإنسان الذي رسمه، بمثل ما أن الخطّ يرتبط بكاتبه.
وإذا كان بيكاسو تخيّل العالم مصنعا للساعات وأنه هو صانعها وتَوَقّع القنبلة النووية وتحلّل الكون، فإن موديلياني حوّل العالم إلى ألبوم من الشخصيات الفنّية في زمانه والأشخاص الصغار الذين كانوا يعيشون حوله. فقد رسم نحّاتين مثل برانكوزي ولوران، وشعراء مثل كوكتو واخماتوفا، ورسّامين مثل سوتين وكيسلنغ، بالإضافة إلى الرجال والنساء العديدين الذين كان يراهم وهم خارجون من مبنى الأوبرا.
ورسم أيضا الخادمات والموسيقيين وأطفال الحيّ. كما رسم، وعلى وجه الخصوص، عشيقاته. كانت تتملّك موديلياني رغبة عميقة بتخليد كلّ شخص يعرفه. وبعض النقّاد يعتبرون عارياته أكثر الأشخاص عُريا في تاريخ الرسم. وهنّ يبدين شهوانيات بلا خجل ومغريات بلا تحفّظ.

شخوص موديلياني دائما ما يعطون انطباعا عن الوحدة والحنين. وهم يعكسون انطوائية الرسّام نفسه. وضعيّاتهم في اللوحات توحي بالانسحاب إلى الداخل، كما لو أنهم يحترسون من بيئاتهم المحيطة. وأيديهم معقودة في أحضانهم في موقف قد يوصف بأنه أمومي.
الانسحاب والدفاع الذاتي هما السلاحان اللذان يلجأ إليهما شخص يشعر بأنه محاط بقوى عدائية. الخلفيات الدخانية والمكشوفة والصدِئة في اللوحات يُرجّح أنها ترمز إلى العالم السديمي للكحول والمخدّرات، وربّما للحنين الذي يداعب مخيلة الفنّان.
نساء موديلياني فخورات وذوات كبرياء وبهاء. ولهنّ وقار وَثَن بعينين مصنوعتين من العقيق تُرك مهجورا في صحراء نائية متحمّلا هجمات العناصر وتعاقب الدهور والأزمنة. أما رجاله فيشبهون آلهة الأزتك في لامبالاتهم وسكونهم وخلودهم.
من الناحية السيكولوجية، كان موديلياني ينظر إلى الآخرين بعيني طفل. وكان يرى الكبار عمالقة أقوياء لا تحرّكهم العواصف. موديلياني الذي لم يتوقّف أبدا عن التصرّف كطفل، كان يجسّد في نسائه النموذج الأمومي. وقد صنع من كلّ امرأة في لوحاته نموذج المرأة/الأم/الإلهة التي تُحبّ وتُحترم في الوقت نفسه.
العنق كان الملمح الأكثر وضوحا في معظم أعمال موديلياني. وكثيرا ما تظهر الأعناق الطويلة والرفيعة في رسومات الأشخاص المصنّفين سيكولوجيا بأنهم ناقصو النموّ وفصاميّون. وعندما يُظهِر رسّام ما شغفا واهتماما بالأعناق في رسوماته، فإنه يكشف بهذا عن حقيقة انه منشغل بالصراع بين دوافعه الجسدية والانضباط الذي يُمليه عليه عقله.
العنق هو العضو أو الجزء الذي يفصل بين الحياة الفكرية "الرأس" والحياة الغريزية "الجسد". وحقيقة أن الرسّام كان يطيل أعناق موديلاته أو نسائه خارج كلّ النسب المعقولة والطبيعية يعكس بوضوح الصراع بين دوافعه الغريزية القويّة ورغبته في السيطرة عليهنّ من خلال ملكاته الذهنية أو العقلية.

رؤوس الشخوص في لوحات موديلياني تبدو في كثير من الأحيان مشوّهة. والرأس عادة يرمز للأنا، كما انه رمز لكلّ قوانا الفكرية والاجتماعية، بل ورمز لسيطرتنا على دوافعنا الجسدية والمادّية. وعندما يفقد شخص، أو فنّان، السيطرة على نفسه، فإنه يعوّض عن هذا الفقد عادة بتكبير حجم الرأس في رسوماته.
أفواه شخوص موديلياني، كما تظهر في رسوماته، تأخذ شكل سهم كيوبيد. وتكرار هذا النموذج للفم في لوحاته يشير إلى اهتمام مَرَضي بمنطقة الفم، وهي سمة الأشخاص الشبقين جنسيّا والمدمنين على الكحول والذين يعانون من الطفولية السيكو-جنسية. وهذه النوعية من الأشخاص لديهم غالبا حاجة قويّة للتركيز على الفم كعضو مانح للمتعة.
العينان نصف المغلقتين اللتان يرسمهما موديلياني لنسائه تشيران إلى عدم النضج العاطفي. إنهما عينا شخص ينظر إلى العالم دون أن يراه، اللهمّ إلا ككتلة سديمية ومنتجة للإثارة. ومن خلال عيون شخوصه نصف المغلقة، فإن الفنّان نفسه يحدّق، دون كثير اهتمام، إلى العالم من المسافة التي يفرضها مرضه وإدمانه على الكحول.
ومن ناحية أخرى، فإن العيون نصف المغلقة تعبّر عن رغبة في أن يبقي العالم خارجا وأن يركّز فقط على نفسه وعلى هاجسه بجسده المريض.
فنّ موديلياني يعكس الخصائص السيكولوجية لشخصيّته كرجل، والتي بدورها تحدّد سمات فنّه. وتوق الرسّام لضبط النفس روحيا وفكريا كان دائما في حالة صراع مع متطلّبات طبيعته الحسّية المفرطة. أحلامه عن الفوران الجسدي والجنسي كانت تتناقض مع أدواء جسده. كما أن رغبته في بلوغ المجد كانت تتصادم مع احباطات وفقر الواقع.
لقد أطلق موديلياني العنان لغرائزه حتى احترق في أتونها، رغم انه كان يحاول جاهدا أن لا يطغى ضعفه البشري على فنّه. واختياره أن يرسم بشرا فقط ربّما يكشف عن رعبه من الوحدة. أما محاولته تخليد شخوصه وذلك بإضفاء مظهر آلهة سرمدية عليهم فقد ينمّ عن رغبته في التسامي فوق قصور وعجز البشر العاديين اللامخلّدين مثله.
وأخيرا، يبدو شخوص موديلياني بعيدين عن الموت، لأن الرسّام حوّلهم إلى أفكار مثالية منحوتة. أما ذلك الهدوء الحزين الذي كان ينقله إلى شخوصه فربّما كان محاولة منه لتحقيق حلمه بالسلام الذي لم يجده أبدا خلال حياته المنهكة والمضطربة. مترجم.