:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، نوفمبر 15، 2013

الحطّاب والأشجار وقصص أخرى

من الحكايات الجميلة والمعبّرة التي كنّا نسمعها ونحن صغار حكاية الحطّاب والأشجار، حيث يأتي حطّاب إلى الغابة ويتوسّل الأشجار أن تمنحه مقبضا مصنوعا من اصلب أنواع الخشب. وتختار له الأشجار الطيّبة والسخيّة خشب الزيتون البرّي.
وما أن يأخذ الرجل المقبض ويثبّته على فأسه، حتى يبدأ في قطع فروع وجذوع الأشجار. وتقول شجرة لرفيقاتها وهي تراقب ما يفعله الحطّاب: إننا نستحقّ ما يجري لنا لأننا أعطينا عدوّنا السلاح الذي كان يحتاجه". والدرس الذي تقدّمه هذه الحكاية هو أن عليك أن تفكّر مرّتين قبل أن تقدّم صنيعا لأعدائك.
وهناك أكثر من تنويع على هذه الحكاية. لكن القصّة الأصلية تُنسب إلى الحكيم الإغريقي ايسوب. وهي تنبّهنا إلى ضرورة أن نكون حذرين من أن نبذل الكرم في غير محلّه خوفا من أن يعود علينا ذلك بالأذى والضرر.
وإحدى أقدم الإشارات إلى هذه الحكاية وردت في قصّة رجل كان يعمل وزيرا عند احد ملوك الآشوريين. وقد تعرّض هذا الوزير للخيانة من قبل ولد له بالتبنّي. وعندما يتوسّل الابن العفو من والده، يرفض الأب ذلك موردا جملة من الأسباب حول أن العفو سيكون عديم الفائدة وبلا مبرّر. ثم يقول مخاطبا الابن: أنت بالنسبة إليّ مثل الشجرة التي قالت لحطّابها: لو لم يكن في يدك شيء منّي لما وقعت عليّ". وفي هذا إشارة إلى أن فأس الحطّاب له مقبض خشبيّ، وبالتالي فإن الشجرة مسئولة هي أيضا عن هلاك نفسها.
وهناك عدد من الأمثال المستمدّة من هذه القصّة. لكن المعنى العام أو الدرس المستفاد منها هو أن الإنسان هو الملوم على سوء حظّه أو تصرّفه.
في اليونان القديمة، كانت هناك ثلاث أساطير تتعامل مع العلاقة بين الأشجار والحطّابين. في إحداها تشتكي أشجار السنديان لزيوس كبير الآلهة من المعاملة التي تلقاها من الحطّابين، فيجيبها أن على الأشجار أن لا تلوم سوى نفسها لأنها من يقدّم الخشب الذي تُصنع منه عصيّ الفؤوس.
وهناك أسطورة أخرى تتضمّن معنى مماثلا. وفيها تشتكي شجرة صنوبر من أن جذعها صار هدفا لأسافين مصنوعة من فروعها. وتشير التعليقات على هذه الأسطورة إلى أن حجم الألم يزداد عندما يدرك الإنسان أن معاناته من صنع يده أو نتيجة لخطأ ارتكبه، وبصرف النظر عن من يُنزِل عليه تلك المعاناة.
ومن الحكايات الأخرى الجميلة التي ما يزال الكثيرون منّا يتذكّرونها من زمن الطفولة حكاية الغراب والإبريق. تذكر القصّة أن غرابا أعياه العطش ذات يوم بارد وجافّ عثر على إبريق ماء في فناء بيت. لكن بسبب طول الإبريق وبُعد مستوى الماء بداخله، تعذّر على الغراب الشرب. وبذل محاولات عدّة لتحريك الإبريق أو قلبه، لكن دون جدوى. ثم هداه تفكيره إلى حيلة بارعة. فقام بإسقاط حجارة صغيرة، الواحد تلو الآخر، بداخل الإبريق. وشيئا فشيئا ارتفع مستوى الماء إلى أعلى، وبالتالي استطاع الغراب في النهاية أن يشرب ويطفئ ظمأه.
الفكرة التي تؤكّد عليها الحكاية هي أن الفكر يتفوّق على القوّة وأن العقل أهمّ من العضلات. ومثابرة الغراب وإصراره يذكّران بالحكمة التي تقول إن الحاجة أمّ الاختراع وبالحكمة الأخرى الأكثر حداثة: حيثما توجد إرادة، فثمّة طريقة أو حلّ".
التوظيف الفنّيّ لهذه لأسطورة يعود إلى زمن الرومان حيث تظهر منقوشة على قطعة من الموزاييك تعود إلى ذلك الوقت. وعبر العصور المتعاقبة، تغيّرت بعض تفاصيل الحكاية، فالإبريق يتحوّل أحيانا إلى دلو ماء أو آنية بسيطة من الخزف.
عالم الطبيعة الرومانيّ بليني الأكبر ذكر أن القصّة تعكس سلوك الغراب في الحياة الواقعية. فالغربان تفعل في الحالات المشابهة نفس ما فعله الغراب في الحكاية.
الدراسات الحديثة أثبتت أن الغراب يفهم أن الإبريق أو الإناء يجب أن يحتوي على سائل وليس مادّة صلبة لكي تنجح الحيلة، وأن الأجسام التي تُلقى بداخل الإبريق يجب أن تغطس، لا أن تطفو. كما أكّدت الدراسات المتعلّقة بقياس ذكاء الطيور أن الإدراك الجسديّ لدى الغربان أفضل منه عند غيرها من الطيور.
حكاية الغراب والإبريق كانت موضوعا لقصيدة كتبها شاعر يوناني يُدعى بيانور في القرن الأوّل الميلادي. ثم انتشرت الحكاية في الأدب اللاتيني خلال القرنين الرابع والخامس الميلادي.
وأختم بحكاية مشهورة أخرى هي حكاية الثعلب والعنب التي لا تكاد تخلو ثقافة منها أو من نسخة معدّلة عنها. وهي واحدة من عديد من القصص ذات البطل الواحد، وهو هنا الثعلب.
تذكر القصّة أن ثعلبا هام على وجهه ذات يوم صيفيّ قائظ وقد اخذ منه الجوع والتعب كلّ مأخذ. وفجأة رأى بعض عناقيد العنب متدلّية من أعلى جدار بستان على طرف الطريق. وقد سال لعابه لمرأى العنب وقفز بكلّ ما أوتي من قوّة للوصول إليه، ولكن دون جدوى. وكرّر محاولته تلك مرارا دون نتيجة.
وفي النهاية أيقن الثعلب انه لن يظفر بشيء من ذلك العنب. وبينما كان يبتعد عن المكان ردّد قائلا: من الواضح أن هذا العنب لم ينضج بعد وأنا لا احتاج إلى عنب حامض". وكان هناك في الجوار غراب يجلس على فرع شجرة ويستمع إلى كلمات الثعلب ويبتسم.
الازدراء الذي يعبّر عنه الثعلب تجاه العنب في نهاية القصّة كان يقصد منه التغطية على عجزه. والأشخاص الذين يتحدّثون باستخفاف عن الأشياء التي لا يمكن أن يحقّقوها تنطبق عليهم هذه الأمثولة. وهي تذكّر بالمثل العاميّ القائل: اللي ما يطول العنب يقول عنه حامض".
وعلى الرغم من أن هذه الأسطورة تصف سلوكا فرديا، إلا أن تعبير العنب الحامض في الانجليزية كثيرا ما يُستخدم اليوم لوصف حالة الشخص الذي يميل إلى الانتقاص من الآخرين أو يحتقرهم بدافع الغيرة أو الحسد. كما يحيل التعبير إلى مثل شائع يقول (الأبناء يأكلون العنب الحامض "وفي العربية الحصرم" والأبناء يضرسون).
قصّة الثعلب والعنب رائعة ومعبّرة لدرجة أنها يمكن أن تُفسّر على أكثر من وجه وأن تُفهم بطرق مختلفة. مثلا، هذه الحالة التي واجهت الثعلب يمكن أن تواجهنا كبشر. العنب العالي يمكن أن يكون كناية عن الغايات والأهداف التي يقول لنا ذكاؤنا ومشاعرنا أنها بعيدة المنال وليس من السهل تحقيقها.
والقصّة تقول إن علينا أن نستخدم كلّ قوانا وجهودنا لبلوغ تلك الأهداف. قد ننجح، وقد نفشل مثل هذا الثعلب الذي يعلّمنا أننا يجب أن نحاول ولا ننشغل بالنتيجة أكثر من اللازم.
كما تعلّمنا القصّة أننا إن لم نصل إلى "العنب الناضج" فإن علينا أن نمضي في طريقنا. ليست غلطتك انك لم تصل إلى "العنب"، بل العنب نفسه غير جدير بأن تبذل من اجله محاولات أكثر. والثعلب بتصرّفه وكلامه لا يريد التقليل من إمكانياته. ونحن أيضا نحتاج لأن لا نستهين بقدراتنا وجهودنا.
ومثل الثعلب، يجب أن نتعلّم أن لا نتمسّك بما لا نستطيع الحصول عليه وأن ننحّي جانبا الأشياء عديمة القيمة. الثعلب يعلّمنا أيضا كيف نكون أقوياء بالمضيّ إلى الأمام والبحث عن أماكن أكثر خضرة ووفرة.
يجب أن نلوم الأشياء التي لا يمكننا تحقيقها بدلا من توجيه اللوم لجهودنا. لو فعلنا مثل ما فعل الثعلب، أي لو مضينا في طريقنا، لانتفت من دواخلنا كلّ مشاعر الخيبة والإحباط الناتجة عن الصراع بين ما نريد أن نفعله وما يمكن أن نفعله.
حضور الغراب في الأسطورة يحمل هو أيضا رسالة مهمّة، وهي انك لن تعدم بعض الأشخاص الذين قد يهوّنون من جهودك ويسخرون منك ومن محاولاتك. لكن في جميع الأحوال، حاول أن تفعل مثل الثعلب: إن لم تستطع فعل شيء، فجاوزه إلى غيره وامضِ إلى الأمام في طريقك.