:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، مارس 13، 2014

قصّة الأميرة تاراكانوفا

لا بدّ وأن ألكسي أورلوف كان رجلا استثنائيا في زمانه. أوسمته ونياشينه الكثيرة التي تظهر في صُوَره التي رُسمت له من تلك الفترة، أي في القرن الثامن عشر، تخبرنا عن جانب من شخصيّته. كان عسكريّا ناجحا بامتياز. وإليه يرجع الفضل في القضاء على الأسطول العثماني في الأناضول في يوليو من عام 1770.
غير أن طموحات أورلوف وانجازاته بدأت قبل ذلك. ففي عام 1762م، لعب هو وشقيقه دورا مهمّا في إطاحة بطرس الثالث وتنصيب كاثرين العظيمة ملكة على روسيا. وقد عُهد إلى أورلوف بمهمّة حراسة الإمبراطور المعزول والحفاظ على سلامته الشخصيّة. وكان أورلوف يعرف أن بقاء بطرس حيّا يمثّل خطرا حقيقيّا على كاثرين. لذا قام شخصيّا بتصفية سجينه الأعزل خنقاً.
ثمّ كلّفه رجال كاثرين بالمهمّة التالية، وهي إغراء وخطف الأميرة اليزابيتا تاراكانوفا التي كانت تزعم أنها الابنة المفقودة للإمبراطورة الراحلة اليزابيتا. وشيئا فشيئا أصبحت تاراكانوفا تمثّل، هي الأخرى، خطرا حقيقيّا على سلطة كاثرين.
والحقيقة انه لا يُعرف عن هذه المرأة الكثير، لا عن تاريخ ولادتها ولا عن عائلتها، بل وحتى اسمها الحقيقي ظلّ مجهولا. لكن يُعرف فقط أنها كانت ابنة لنبيل يُدعى ألكسي رازوموفسكي. وقد سافرت إلى بلدان عدّة في غرب أوربّا واستقرّت أخيرا في إيطاليا، حيث تعرّفت إلى دوق ايطالي اتخذها خليلة. وكانت تعيش على أمواله على أمل أن يتزوّجها في ما بعد.
لكن لأنها أصبحت تثير الصداع لكاثرين بمطالباتها المتكرّرة بعرش روسيا، فقد تمّ ندب أورلوف لمهمّة القبض عليها وإحضارها إلى سانت بطرسبورغ. وسافر أورلوف بالفعل إلى توسكاني بإيطاليا حيث كانت تعيش، وأوهمها بأنه واقع في حبّها، دون أن تفطن إلى هويّته الحقيقية أو إلى طبيعة مهمّته.
وفي النهاية تمكّن من إغوائها واستدرجها إلى سفينته ثمّ جلبها معه إلى روسيا عام 1775م حيث سلّمها لكاثرين. وقد أودعت في سجن بإحدى القلاع القديمة. لكنّها توفّيت في نفس تلك السنة غرقا بعد أن اجتاح فيضان نهر النيفا المنطقة التي يقع فيها السجن.
الرسّام كونستانتين فلافيتسكي صوّر قصّة مصرع تاراكانوفا في هذه اللوحة التي رسمها عام 1864. وهو يرسم معاناة المرأة الشابّة وإحساسها بالعجز واليأس بطريقة معبّرة ومأساوية. وتظهر وهي تواجه الموت المحقّق في غرفتها الكئيبة بالسجن الذي غمرته مياه الفيضان.
تاراكانوفا ترتدي فستانا مهلهلا ومتّسخا وتقف على سريرها بينما تتدفّق المياه عبر نافذة الغرفة. يمكن للناظر وهو يرى استكانتها واستسلامها أن يستنتج أن الغرفة محكمة الغلق وأن لا سبيل للفرار أو النجاة من هذا الموقف المشئوم. الفئران، وهي السكّان الطبيعيون لمثل هذه الأمكنة عادة، أخافها هي أيضا منظر المياه الآخذة في الارتفاع فقفزت إلى السرير طلبا للنجاة.
وفي الزنزانة يمكن ملاحظة طاولة خشبية ورغيف خبز وزجاجة. والمرأة تقف في منطقة الضوء، بينما كلّ شيء آخر في الظلّ.
لم يترك فلافيتسكي الكثير من الأعمال. لكنّه اشتهر بهذه اللوحة التي استقبلها الناس بالكثير من الحفاوة والتعاطف ونال عليها العديد من الجوائز. وقد حاول بافيل تريتيكوف صاحب المتحف المشهور في سانت بطرسبورغ شراء اللوحة، لكن الرسّام طالب بمبلغ كبير. وبعد وفاة فلافيتسكي بعام، ابتاعها تريتيكوف من شقيقه وضمّها إلى مجموعته من الأعمال الفنّية وأصبحت أوّل لوحة تاريخية تدخل متحف تريتيكوف.
اليوم ثمّة من يقول إن قصّة موت تاراكانوفا غرقاً تمّ اختراعها والترويج لها خارج روسيا للإساءة إلى حكم كاثرين، وأن المرأة بعد جلبها إلى روسيا أجبرت على أن تعيش باسم مستعار وأن تعمل راهبة في أحد الأديرة النائية إلى أن توفّيت بالسلّ عام 1810.
وفي عام 1950، ظهر فيلم ايطاليّ عن قصّة استدراج وخطف أورلوف للأميرة تاراكانوفا. الفيلم يمزج الواقع بالخيال، وفيه تظهر تاراكانوفا كأميرة حقيقية ومنافسة خطيرة لكاثرين. كما يظهر أورلوف كعاشق للمرأة وكاره لكاثرين التي كان يتظاهر فقط بولائه لها. وفي نهاية الفيلم، ينجح أورلوف في إطلاق الأميرة من سجنها في روسيا بعد غارة حربية ثم يتزوّج الاثنان ويعيشان في سعادة.
كانت حياة ألكسي أورلوف قصّة يمتزج فيها الطموح بالعنف والإثارة والصراع من اجل البقاء. وبعد وفاة كاثرين العظيمة وتولّي ابنها المريض بولس العرش، غادر أورلوف روسيا. وأثناء حكم الكسندر الأوّل، عاد إلى واجهة الأحداث من جديد وشارك في الحرب ضدّ نابليون. وقد توفّي في موسكو في يناير من عام 1808 تاركا وراءه أراضي وعقارات بملايين الروبلات وأكثر من 20 ألفا من العبيد والخدم.

Credits
historyofrussia.org
tretyakovgallery.ru

الأحد، مارس 09، 2014

آنيّة مليئة بالعطور


بعض الناس يحبّون رائحة الشوكولاته والشموع المعطّرة أو أشجار الصنوبر والريحان الطازج. والبعض الآخر يحبّون رائحة السيّارة الجديدة أو الكتب القديمة أو رائحة العشب في نهار صيفيّ ممطر. وهناك من يفضّل رائحة البخور أو القهوة الطازجة أو الزعفران. وهناك، مثلي، من يفضّل الرائحة الليّنة لبرد الشتاء ورائحة الحطب المشتعل ونكهة الزنجبيل والليمون البرّي.
وقد يتساءل قارئ: وهل للشتاء رائحة؟ والإجابة نعم رغم صعوبة شرحها أو وصفها. صحيح أن الشتاء يمثّل بالنسبة للكثيرين تطرّفا في دورة المواسم، لكنّه يبدو دائما محمّلا بالوعود ومُبهجا للحواسّ. ورائحة يوم شتويّ لا تنفصل عن منظر السماء الصافية الزرقاء والنسيم البارد في الليل وشذى الأزهار البرّية.
وفي الكثير من الحالات، قد يحبّ شخص هذه الرائحة أو تلك لأنها تعيده إلى الماضي وتستثير في نفسه ذكريات عن أزمنة وأمكنة ووجوه من الأيّام الخوالي.
وأكثرنا لا بدّ سمعوا عن مارسيل بروست أو قرءوا شيئا من كتاباته، خاصّة روايته المشهورة البحث عن الزمن المفقود التي نُشرت قبل مائة عام من الآن. وأتذكّر أنني ابتعت نسخة من الترجمة العربية لهذه الرواية قبل سنوات. لكنني لم استطع أن أقرأ أكثر من أربعين صفحة منها. وخمّنت أن السبب ربّما يعود إلى أنني عندما قرأتها لم أكن في أفضل حالاتي الذهنية، أو أن السبب عائد إلى الترجمة وكثرة الاستطرادات والجمل الطويلة فيها بالإضافة إلى الشخصيّات الكثيرة في الرواية. وقد تكمن المشكلة في كون بروست نفسه كاتبا نخبويّا، بحسب ما يقوله بعض النقّاد.
الرواية الأصلية المكتوبة بالفرنسية تتألّف من ثلاثة آلاف صفحة وحوالي مليون كلمة وأكثر من مائتي شخصيّة. وقد كُتبت في سبعة مجلّدات، لكنّ مترجمها إلى العربية اختصرها إلى أربعة مجلّدات فقط.
والفكرة التي تتمحور حولها الرواية ويتردّد صداها في جميع أجزائها هي أن بعض الروائح يمكن أن تقدح طوفانا من الذكريات عن أشخاص وأمكنة وأشياء أخرى من زمن الطفولة.
والكاتب يتساءل في أكثر من مكان من الرواية عن السرّ في أن للروائح قدرة على استلهام ذكريات من الماضي ونقلنا إلى أماكن غريبة أو حتى مفاجئتنا بذكريات كنّا نظنّ أننا نسيناها منذ زمن طويل.
وتبدأ الرواية عندما يغمس الراوي قطعة من البسكويت في كأس من الشاي بنكهة الأعشاب. وعندما يتذوّق نكهة البسكويت والشاي المعطّر يتذكّر فجأة حادثة من الماضي. ومن تلك الذكرى يمضي ليصف قريته والبيت الذي عاش فيه وكذلك الأشخاص الذين عرفهم والتجارب التي عاشها في طفولته وشبابه.
ومن الأمور الغريبة أن بروست هو أوّل من صاغ مصطلح "الذاكرة اللاإرادية" التي تحدّث عنها في نفس هذه الرواية. وقد فعل هذا مع انه لم تكن لديه أيّة خلفية أبدا عن علم النفس ولم يكن قد قرأ لفرويد أو غيره، كما لم يكن يعرف أيّة مهنة أو تخصّص آخر غير الكتابة.
كان بروست يرى أن الذاكرة اللاإرادية تحتوي على خلاصة الماضي وأنها ترتكز على ما يُعرف بالصور المتسلسلة، أي أن كلّ ذكرى تطلق لاإراديّا ذكريات أخرى ذات صلة، وكل واحدة من هذه الذكريات مرتبطة بالأخرى.
والحقيقة أن لا احد يعرف، على وجه اليقين، إن كان الكاتب قد مرّ فعلا بلحظات التجلّي أو التسامي تلك بتفاصيلها التي ذكرها في روايته. غير أن فكرة العلاقة بين الذاكرة والروائح التي تحدّث عنها ما تزال تلهم العلماء وتثير اهتمامهم حتى اليوم.
الاهتمام بالعلاقة بين علم النفس وحاسّة الشمّ ينمو سنويّا بعد أن ظلّت الأبحاث تركّز على البصر والسمع باعتبارهما الحاسّتين الأكثر تأثيرا على العلوم السلوكية.
علماء الأعصاب من جهتهم يرون أن حاسّتي الشمّ والذوق قريبتان جدّا من تلك الطبقات البدائية في أدمغتنا. وقد اكتشفوا وجود مناطق في الدماغ تتذكّر المناظر والروائح والنكهات وأصوات بعض التجارب والخبرات. كما وجدوا أن الذكريات التي تطلقها الروائح يمكن أن تكون أكثر تفصيلا وإثارة للانفعال من تلك التي لا ترتبط بنكهة أو رائحة.
وقد ثبت علميّا أن الذكريات الشعورية عن الأحداث والتجارب تنتشر على امتداد مناطق متعدّدة ومختلفة من الدماغ. تخيّل، مثلا، انك ذهبت إلى الشاطئ ذات يوم للراحة والاستجمام. منظر الأمواج المتكسّرة يتمّ تخزينه في منطقة معيّنة في الدماغ، بينما تُخزّن رائحة العشب البحريّ في منطقة أخرى مختلفة.. وهكذا.


بعض الكتّاب يذهبون إلى أماكن غريبة أو يسافرون في رحلات طويلة أو يدمنون على الشراب أو يتناولون المخدّرات أو يفقدون أنفسهم في الجنس. لكن مارسيل بروست اختار أن يذهب إلى الداخل؛ إلى الأرض المجهولة والعوالم غير المعروفة في دواخلنا. وروايته تنظر إلى الزمن كقاتل لا يرحم وإلى الحياة كسلسلة من حالات الفقد.
من ناحية أخرى، يمكن اعتبار "البحث عن الزمن المفقود" مرثيّة تصف الدمار الذي يصنعه الزمن بالأشياء والناس. كما يمكن اعتبارها بحثا عن الحبّ وعن الذات والهويّة. لكن الرواية تحكي أيضا عن فكرة أكثر قتامة، وهي أن ما نُظهِره من مشاعر وردود فعل ليست سوى جزء بسيط من أنفسنا، أمّا الجزء الأكبر فهو ذلك الذي يظلّ كامنا في اللاوعي لأن أعمالنا الروتينية وعاداتنا اليومية تحجبه عن الظهور وتمنعه من أن يُحفّز أو يستثار.
والحقيقة انك لا بدّ وأن تُدهش من كثرة الكتب والمقالات الأدبية والرسائل العلمية التي كُتبت عن هذا الكاتب وعن روايته الماراثونية الفريدة. اسم بروست نفسه أصبح صفة في عالم الأدب، إذ يقال أحيانا "أدب بروستي" لوصف أسلوب بروست أو أيّ أسلوب آخر يشبهه، أو لوصف عوالم الطبقة الوسطى الارستقراطية التي تحدّث عنها في أدبه.
الروائي غريهام غرين كتب ذات مرّة يقول: بروست هو أعظم روائيّ في القرن العشرين، تماما كما كان تولستوي أعظم روائيّ في القرن التاسع عشر. وبالنسبة لأولئك الذين بدءوا يكتبون في نهاية عشرينات أو بداية ثلاثينات القرن الماضي، كان هناك كاتبان كبيران لا مهرب من التأثّر بأحدهما أو كليهما: بروست وفرويد. وكان كلّ منهما يكمّل الآخر".
وقبل حوالي شهرين كتب ناقد أمريكي مقالا عن رواية بروست قال فيه: لكي تقترب من أجواء رواية بروست، يجب أن تكون متهيّئا شعوريّا. فالجمل طويلة والفقرات ضخمة والرواية نفسها من أطوال الروايات. غير أن بروست يستحقّ المحاولة. فأشخاصه أحياء ويتنفّسون بطريقة تجعلك تشعر بأنهم أصدقاؤك. لكن عليك أن لا تتوقّع أن تجد حبكة أو إثارة، ولا حتّى قصّة بالمعنى التقليدي للكلمة. الأفكار التي تتناولها الرواية تأتي في شكل تأمّلات عميقة عن بعض أهمّ القضايا التي يعالجها الروائيون عادة كالحبّ والرغبة والذاكرة والزمن والموت".
بروست نفسه كان شخصيّة مثيرة للاهتمام. لم يستطيع الحفاظ على وظيفة واحدة وكانت صحّته على الدوام سيّئة. لكن كان لديه شيء أكثر ارتباطا بالسعادة البشرية. وكان هذا يتمثّل في انه كان دائما ينظر إلى الأشياء بواقعية. كما أنه أيضا كاتب إنساني تستطيع أن تجد في أدبه، ليس فقط جميع أنماط الشخصيّات المختلفة، وإنّما أيضا كلّ أنواع الحالات والعواطف والمشاعر الإنسانية التي يمكنك تخيّلها. وهناك من يلقّبه بشكسبير العالم الداخلي لقدرته على أن يحرّك مشاعر أيّ إنسان بصرف النظر عن خلفيّته أو تعليمه. وكلّ شخص بإمكانه أن يجد في أدبه شيئا من نفسه.
كان بروست دائم البحث عن الجمال في الطبيعة، وكثيرا ما كان يتوقّف ليشمّ عبير الأزهار ويراقب حبوب اللقاح. كان يقول إن الرحلة الحقيقية ليست في أن ترى طبيعة جديدة، بل في أن ترى بعينين جديدتين. وكان يرى أن ساعة من الزمن ليست مجرّد فسحة قصيرة، بل مزهرية مليئة بالعطور والأصوات والأماكن والمناخات. لذلك فنحن نحمل في داخلنا كنزا من الانطباعات، ولكلّ منها نكهة خاصّة بها تتشكّل من تجاربنا التي تصبح مع مرور الزمن لحظات من ماضينا.
لم يكن بروست مثقّفا كبيرا، لكنّه كان شخصا ذكيّا بامتياز. كان يركّز اهتمامه على النباتات والناس واللوحات الفنّية. لكنه لم يكن يعبأ كثيرا بالنظريات التي تتحدّث عن علم النبات أو علم النفس أو علم الجمال. وقد قضى السنوات الثلاث الأخيرة من حياته سجين غرفة نومه. كان ينام في النهار ويكتب ليلا لاستكمال روايته التي عكف على كتابتها طوال عشرين عاما ولم ينجزها إلا قبيل ساعات من وفاته بالالتهاب الرئوي عام 1922.
في مكان ما من الرواية، يكتب بروست قائلا: إذا كنّا في كثير من الأحيان نميل لقراءة كتب من زمن آخر، فلأن تلك الكتب هي السجلات الوحيدة التي احتفظنا بها عن أيّامنا السالفة ونتمنّى أن نرى على صفحاتها انعكاسات للوجوه والمساكن والطرقات والغدران التي خبرناها من قبل ولم تعد موجودة".
وفي مكان آخر، يلاحظ الراوي اختفاء معالم بأكملها من منازل وحدائق وطرقات ثمّ يتساءل: أين ذهب هذا العالم؟ هل تلاشى إلى الأبد؟".
والإجابة هي أن ذلك العالم ما يزال موجودا، لكن في ذاكرتنا فقط. وما يمنحه حياة جديدة وينقذه من النسيان هو الإبداع الأدبيّ. العمل الفنّي هو ما يسمح لنا بإعادة اكتشاف الزمن المفقود.

Credits
proust-ink.com
authorama.com
literary-exploration.com