:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، يونيو 10، 2014

البحث عن الظلام/2

في الولايات المتحدة اقترحت إحدى الشركات أن تصمّم للشوارع العامّة أنوارا "ذات رنين قمريّ" عبارة عن مصابيح تستجيب لضوء القمر المحيط. وستكون هذه المصابيح مزوّدة بأجهزة استشعار بحيث تسطع أضواؤها أو تصبح باهتة تبعا لمراحل القمر والغطاء السحابي والعوامل البيئية الأخرى. وتأمل تلك الشركة أن تغيّر الأضواء الجديدة مفهومنا عن المدن في الليل وتساعد على تشجيع "الأنشطة المرتكزة على ضوء القمر".
وفي زيارته إلى منطقة لومبارديا في شمال إيطاليا، يلاحظ المؤلّف بوغارد أن أعمدة النور هناك صُمّمت لتمنع الأضواء من الهرب أفقيّا أو لأعلى. وطبقا لمنظّمة ايطالية تدافع عن السماء المظلمة، فإن أكثر من 30 في المائة من الإضاءة العامّة موجّهة نحو السماء. وهناك دعوات متزايدة لاستخدام أعمدة الإنارة المعدّلة التي تهدف إلى الحدّ من هذه الأضواء المهدرة وتوفير الطاقة والاكتفاء منها بالحدّ الأدنى الذي يوفّر إضاءة مشرقة ومعقولة.
وفي جزء آخر من الكتاب يتحدّث المؤلّف عن مستوى الرؤية ليلا في فينيسيا؛ المدينة الايطالية التي يبلغ عدد سكّانها أكثر من 250 ألف شخص والتي يمكن أن ترى في سمائها مجرّة درب التبّانة بوضوح. وهو يعزو هذا الأمر إلى الأضواء الرومانتيكية الفريدة والمتقشّفة في هذه المدينة.
وينقل الكاتب عن احد العلماء قوله بأن هناك في الواقع قياسا كمّيا لعدد النجوم التي يحتاج الإنسان لرؤيتها في سماء الليل. وبعض علماء الفلك يقولون إن عين الإنسان ينبغي أن ترى ما لا يقلّ عن 2500 نجم ليلا لاستحضار ذلك النوع من الشعور بالارتباط بالماضي وبالكون ككلّ.
وقد ذهب المؤلّف أيضا إلى فلورنسا مترسّما خطى العالم العظيم غاليليو واكتشف أنهم ما يزالون يحتفظون باثنين من التلسكوبات الأربعة التي كان يستخدمها. وقد قال له عالم فلك هناك شيئا مدهشا. قال انه إلى ما قبل حوالي 400 عام في فلورنسا، كان بإمكان الجميع أن يروا النجوم، ولكن كان عند غاليليو لوحده تلسكوب. "والآن الجميع لديهم تلسكوبات، ولكن لا أحد يمكنه رؤية النجوم".

❉ ❉ ❉

وفي أكثر من مكان من هذا الكتاب، يعبّر المؤلّف عن حزنه، ليس فقط لأنه فقد ضوء النجوم، وإنّما الظلام نفسه أيضا. وهو يجادل بأن فقدان الظلام لا يسبّب فقط آثارا صحّية وبيئية عديدة، ولكنه يمثّل خسارة عاطفية وجمالية بنفس الوقت.
لقد عطّل التلوّث الضوئي العلاقة الأساسية التي تطوّرت بين البشر والعالم الطبيعيّ. وهناك في التراث الإنساني ما يشير إلى أن الظلام له تأثيره على الممارسات الثقافية والاجتماعية. وطوال التاريخ البشري ظلّت السماء الليلية تحتفظ بتساميها وجمالها اللذين يلهمان الرهبة.
الليل كان دائما ارض الألفة والحميمية والخيال. أما الظلام فكان وما يزال جزءا من عملية الإبداع والخلق. وكل فنّان يعرف ذلك. وما يؤسَف له أننا أصبحنا بعيدين عن زمن أشخاص مثل فان غوخ وهنري ثورو وغيرهما عندما كانت سماء الليل تخبرنا قصصا عن حياتنا وعن أقدارنا.
ويشير المؤلّف إلى نظرية الكاتب والفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو التي ضمّنها كتابه "الحياة في الغابات" والتي يقول فيها إن الخوف الذي نشعر به في الليل أمر طبيعيّ، بل ومفيد أيضا لأنه يدفعنا للشعور المتزايد بالحياة والحيوية، كما انه يسمح لنا من خلال الظلام بمواجهة بعض إيحاءات موتنا الذي لا مفرّ منه في النهاية".

ويورد الكاتب أيضا قصّة عن الشاعر الانجليزي سامويل تيلر كولريدج الذي كان من عادته أن يتمشّى مسافات طويلة في منتصف الليل وتحت ضوء النجوم مع احد أصدقائه حتى الثالثة صباحا وهما يتحدّثان. ثمّ يعبّر عن أسفه لأن مثل هذه الأنشطة الليلية المرتبطة بالظلام وبغياب الضوء أصبحت مفقودة من حياتنا اليوم.

❉ ❉ ❉

بوغارد نفسه يتصرّف مثل مستحضر للأرواح الطيّبة يسعى وراء الظلام في أيّ مكان يتوقّع أن يعثر عليه فيه، ثم يجلس ليراقبه ويتأمّله ويسجّل بعضا من انطباعاته ومشاهداته.
يقول مثلا: عندما أستلقي على ظهري وأغمض عينيّ، فإن هذا الطرف البعيد من الشاطئ بالقرب من نهاية المحيط يبدو أشبه ما يكون بكائن هائل يتنفّس. الذين يعيشون هنا لوحدهم ومن دون أضواء يصبحون بالفعل ذوي حساسية عالية تجاه المواسم والإيقاعات والطقس والأصوات وصولا إلى جوار البحر وما تحت السماء. الأمر يشبه أن تستلقي إلى جوار شخص تحبّه فتسمع حركة دمه وأنفاسه ودقّات قلبه".
ويقول في مكان آخر: بعينيّ المجرّدتين، انظرُ إلى القمر في الليل وهو يصعد ببطء. أحيانا يبدو مغبّرا بالصدأ وبالألوان الزهريّة والبنّية والذهبيّة، لدرجة انه يكاد يقطر ألوانا أرضيّة ويُخيّل إليك كما لو أن ضفائره مربوطة بالأرض وأنه يشعر بكونه قريبا من هذا العالم وجزءا منه وأنه صديق. ولكن المفارقة أن القمر من خلال التلسكوب يبدو أكثر بُعدا. القمر الرماديّ والأبيض يظهر في بحر من السواد، سطحه أكثر إشراقا، ولا بدّ وأن تُذهل من الصمت المطلق للمشهد".
وفي مكان ثالث يقول: في معظم الأيّام، أعيش مرعوبا من هذا العالم أكثر من حزني على العوالم التي فقدناها: الشمس المشرقة الصافية لظهيرة شتوية متجمّدة، أو صعود كوكبة الجبّار في أمسيات الليل الشرقية كلّ ليلة. يمكنك أن تشعر بالحزن إلى ما لا نهاية على الأطفال الجائعين وعلى ضحايا العنف المنزلي وعلى حروب لا نهاية لها بين بشر يُفترض أنهم ناضجون. لكن لا يجب أن تخاف إن رأيت الحزن منتصبا أمامك اكبر من أيّ شيء آخر رأيته من قبل، كما يقول الشاعر الألماني ريلكا. ومع ذلك، يجب أن تدرك أن الحياة لم تنسَك، وأنها تضمّك إليها ولا تسمح لك بأن تقع".

❉ ❉ ❉

في نهاية الكتاب، يعيد إلينا المؤلّف الوعي بالسماء الليلية المظلمة والبدائية، وكيف أنها في التجربة الإنسانية كلّ شيء، من العلم إلى الفنّ إلى الشعر. "لقد جرّدنا أنفسنا وأطفالنا من متعة السماء الرائعة في الليل والتي ألهمت الفنّ والعلوم والدين والفلسفة منذ فجر التاريخ البشري. إننا نسرف في إضاءة الممرّات والشرفات ومواقف السيّارات وواجهات المحلات والطرق السريعة والأماكن العامّة. ولهذا أصبحت السماء الليلية الآن من الأنواع المهدّدة بالانقراض".
ويضيف: هذا الكتاب ليس دعوة للتخلّص من الضوء والعودة إلى الظلام، لأن الضوء في الليل مدهش. انه معجزة، والناس لن يتحمّلوا عدم وجود ضوء على أيّ حال. ولكن هناك الكثير من الأشياء التي يمكن القيام بها للسيطرة عليه واحتوائه واستخدامه بذكاء ومسئولية. بإمكاننا مثلا أن نستخدم ضوءا أقلّ كثيرا من الضوء الذي نستخدمه الآن لمسائل السلامة والأمن وإنارة الشوارع. لقد تطوّرت الحياة على الأرض بنهارات مشرقة مع ليال مظلمة، ونحن بحاجة إلى كليهما".

Credits
patheos.com
paul-bogard.com
spiritualityandpractice.com

الاثنين، يونيو 09، 2014

البحث عن الظلام

الليل المرصّع بالنجوم هو واحد من عجائب الطبيعة الأكثر سحرا. ولكن في عالمنا الذي تنيره الأضواء الاصطناعية، فإن ثلاثة أرباع الناس لا ينظرون إلى السماء ليلا ومعظمنا لم يعودوا يجرّبون الظلام الحقيقي.
والمفارقة هي انه صار لدينا الآن الكثير من الضوء بحيث لم نعد قادرين على أن نراه. وأصبحنا في بعض الأحيان عميانا "بالمعنى الحرفيّ للكلمة" بسبب سطوع ووهج الإضاءة. ولكن العبارة بمعناها المجازي صحيحة أيضا، وهذا يعني أنه عندما نضيء كلّ شيء، فليس هناك حقّا أيّ سبب لكي ننظر أكثر أو نلاحظ ما حولنا.
الإضاءة الاصطناعية قد تعني الكثير من الأشياء الجيّدة حقّا. فمن خلالها نستطيع وصل الليل بالنهار، ما يعني أننا يمكن أن نستمرّ في العمل وان نتابع هواياتنا ونذهب لتناول العشاء ونرفّه عن أنفسنا.
لكن لّليل الكثير من السمات التي تتجاوز الظلام أو عدمه، مثل الأصوات والروائح الليلية، أي تلك الأشياء الحسّية التي لها علاقة أكثر بالليل.
في الليل يتضاءل حجم وصخب العالم ونشعر بأن لا شيء يجتاحنا أو يعصف بنا. وفي الليل أيضا نتخلّص من تلك الأعباء التي حملناها طوال النهار. هذه الأمور تعني أن الليل هو أكثر بكثير من مجرّد الظلام. ومع ذلك فإن الظلام نفسه يتوفّر على الكثير من الأهميّة لوحده، سواءً بالنسبة لصحّة الإنسان أو صحّة البيئة.

❉ ❉ ❉

في هذا الكتاب بعنوان "نهاية الليل: البحث عن الظلام الطبيعي في عصر الضوء الاصطناعي"، يتناول الكاتب بول بوغارد فكرة الاختفاء السريع للظلام من عالمنا، أو بعبارة أدقّ الزحف المتزايد للضوء.
وقت الليل كما عرفه أسلافنا وحتى وقت قريب، أي إلى حوالي منتصف القرن العشرين، أصبح تحت التهديد. وإذا كانت أضواء العالم الآن لا تنطفئ أبدا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يؤثّر هذا علينا، نحن البشر، وعلى أشكال الحياة الأخرى التي تشترك معنا في بيئتنا؟
مؤلّف الكتاب يلفت انتباهنا إلى أن الليل المظلم هو منظر طبيعيّ في حدّ ذاته، أي حالة بيئية منفصلة وثمينة للغاية لدرجة أننا نغفل عنها وندمّرها دون أن نعي خطر ذلك.
وهو يبدأ كتابه بطاقة وحيوية. ومن اجل أن يجمع مادّة للكتاب، يذهب إلى مواقع في الولايات المتحدة، والى أماكن أخرى مثل باريس وفلورنسا وجزر الكناري وغيرها.
يقول بوغارد إن الانتشار السريع للإضاءة الاصطناعية في عصرنا هو سمة رئيسية للرأسمالية. ثم يذكّر بكلام لـ بيل ماك ايبن مؤلّف كتاب نهاية الطبيعة الذي يقول: إن أكثر الأشياء الثمينة في العالم الحديث هي الصمت والعزلة والظلام. ومن بين هذه الأشياء الثلاثة النادرة، فإن الظلام الحقيقيّ قد يكون أندرها جميعا".
ويورد المؤلّف أدلّة دامغة على التأثير الضارّ للحرمان من الظلام على البشر، مشيرا إلى أن الضوء الكهربائي، بديلا عن ضوء القمر أو النجوم أو حتى ضوء الشموع، له دور مهمّ في الإصابة بالسرطان. فإنتاج هرمون الميلاتونين، وهو عامل حيويّ في جهاز مناعة الجسم، ينخفض في بيئة الضوء. وقد تمّ ربط نقص الميلاتونين في الدم بزيادة مخاطر الإصابة بسرطان الثدي والبروستاتا.
يناقش الكتاب أيضا التكلفة المادّية والانفعالية لنوبات العمل الليلية. فإيقاعات الساعة البيولوجية تتعرّض للخلخلة بفعل التعرّض للضوء الكهربائي في الليل، ما يؤدّي إلى اضطرابات النوم التي تولّد بدورها الإرهاق وتوتّر الأعصاب وازدياد العلاقات الصراعية. ومؤخّرا اعتبرت منظّمة الصحّة العالمية أن نظام العمل بالنوبات الليلية يسهم في الإصابة بالسرطان ووضعته في نفس مستوى خطورة استنشاق أبخرة الديزل.

كتاب "نهاية الليل" مبنيّ في الواقع على سلسلة من اللقاءات مع أناس لديهم ما يقولونه حول الضوء والظلام. ومن هؤلاء شخص يُدعى كين، وهو سجين سابق، نعلم منه أن احد أساليب إضعاف الروح المعنوية للسجين هو تعريضه المستمرّ للضوء الثابت الذي يُوظّف كجزء من الذراع الطويلة للأمن. ومن غير المدهش أن كين أصبح الآن معلّما لا يُشقّ له غبار في شئون الظلام.
ويشير الكاتب إلى انه إذا كانت مدننا الشديدة الإضاءة تُعرّض صحّة الإنسان للخطر، فإن لتلك الإضاءة انعكاسات أكبر على عالم الحيوان. فـ 30 في المائة من الفقاريات وأكثر من 60 في المائة من اللافقاريات هي كائنات ليلية. والإضاءة الاصطناعية تؤثّر بشدّة على أنماط التزاوج والتربية والتغذية والهجرة عند تلك الحيوانات. وهناك قصص عن مئات الحيوانات التي تُقتل سنويا بسبب ارتطامها بالأسوار الاسمنتية نتيجة الارتباك والتشوّش الذي تسبّبه لها أضواء المدن.
ومن الحقائق العلمية المعروفة أن الكثير من أنواع الحيوانات الليلية تنشط عادة عند الفجر أو الغسق. وقد تطوّرت هذه الأنواع لتعتمد على الظلام. وعندما تغزو أضواؤنا الاصطناعية بيئتها، فيمكن أن تكون تلك الأضواء مدمّرة مثل جرّافة في وضح النهار.
ويقول المؤلّف إن ألمع شعاع على وجه الأرض يمكن العثور عليه في لاس فيغاس، وهو ينبعث من مزيج من تسعة أضواء ضخمة في كازينو الأقصر. وهذه الأضواء تمثّل شرَك موت حقيقيّ للفراشات وللحشرات الأخرى التي تنجذب إلى الأضواء المبهرة.
لكن تلك الأضواء هي أيضا مصدر دمار اكبر للخفافيش والطيور التي تتغذّى من هذا البوفيه الكبير والمضاء جيّدا. وما يحدث هو أن الأضواء تجذب هذه الكائنات من بيئتها الطبيعية البعيدة جدّا، لدرجة أن الطاقة التي تبذلها في الطيران من وإلى الكازينو لا تترك لها شيئا لإطعام ورعاية صغارها.
وما يحزن المؤلّف هو أن الكثير من الضوء يُفقد بعض الحيوانات صوابها ويحرف دورات الطبيعة ويدمّر صحّة الإنسان.

❉ ❉ ❉

تاريخيّا، كانت الحكومات تشجّع الضوء، لأن السيطرة على مدينة مضاءة جيّدا يصبح مهمّة سهلة. كان الضوء يعادل سلطة الدولة. وفي عصر لويس الرابع عشر ملك فرنسا، صدر مرسوم يقضي بأن تُعلّق الشموع في الشوارع. وكانت تلك وسيلة لإثبات قوّته ومقدرته على إبعاد الظلام. وفي السنوات التي سبقت الثورة الفرنسية، كان العديد من الباريسيين يرون في إنارة الشوارع العامّة رمزا للطغيان. وكان تحطيم مصابيح الزيت عملا مألوفا ومتكرّرا آنذاك.
لكن اليوم أصبحت العديد من الدول تبذل جهودا حثيثة للسيطرة على التلوّث الضوئي. فرنسا، مثلا، والتي تُسمّى عاصمتها "مدينة النور"، أصدرت حكومتها مرسوما يُلزم المباني العامّة والمحلات التجارية بإطفاء أنوارها ما بين الساعة الواحدة والسابعة صباحا في محاولة للحفاظ على الطاقة وخفض التكاليف والحدّ من آثار الإضاءة الاصطناعية على البيئة الليلية.
كما كانت جمهورية التشيك من أوائل الدول التي سنّت قوانين لمكافحة التلوث الضوئي في البلاد. وفي المكسيك أعلن تحالف يضمّ عددا من المنظمّات الشعبية أن السماء الليلية المظلمة هي جزء من التراث الثقافي للبلاد وألزم البرلمان بسنّ قانون يقضي بتنظيم الإضاءة خارج البيوت ليلا.
للحديث بقيّة غداً..