:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، يناير 23، 2017

عصر أورانغ زيب

قصّة حياة أورانغ زيب، سادس حكّام المغول في الهند، مليئة بالدراما والإثارة وبالمفارقات الغريبة. وربّما لا ينافسه من هذه الناحية سوى الشاه عبّاس الصفوي والسلطان العثمانيّ سليمان القانوني.
قراءة سيرة حياة هذا الرجل لا بدّ وأن تثير العديد من الأفكار والتساؤلات. مثلا، هل يولد الإنسان قاسيا بطبيعته أم أن الظروف والتنشئة هي التي تجعله عنيفا مستبدّا؟ وهل من المفيد أم الضارّ مزج الدين بالسياسة؟ وهل التديّن الزائد عن الحدّ خصلة جيّدة أم رديئة، خاصّة عند الحكّام؟
تُوّج أورانغ زيب حاكما على الهند في احتفال مهيب جرى عام 1658 في حدائق شاليمار المشهورة في نيودلهي. وقد حكم البلاد طوال خمسين عاما. والده، أي شاه جيهان، كان ملكا متفتّحا ومتسامحا ومحبّا للفنون. وإليه يُنسب أشهر صرح معماريّ في تاريخ الهند، أي تاج محلّ الذي بناه تكريما لذكرى زوجته ممتاز محل، والدة أورانغ زيب.
أورانغ زيب نفسه كان شخصا متعلّما وذكيّا ومتديّنا بشدّة. تستطيع أن تقول إن أفكاره الدينية كانت سلفية قبل ظهور السلفية بمعناها الحديث. لكنه أيضا كان مخادعا وميّالا للانتقام. ولم يكن يثق بأحد، لذا احتفظ في بلاطه بشبكة واسعة من العيون والجواسيس.
وكان أيضا، وهذه أخطر صفاته، إنسانا متعطّشا للسلطة. ولهذا السبب قام بخلع والده شاه جيهان وجلس مكانه على العرش. ثم نشأ نزاع ضارٍ بينه وبين أشقائه الثلاثة الذين احتجّوا على خلعه لأبيهم واستئثاره بالحكم لنفسه. لكنه في النهاية حسم الصراع لمصلحته بعد أن أمر بقتل إخوته جميعا.
معاملة أورانغ زيب لوالده وأشقائه من الصعب اليوم أو في ذلك الوقت فهمها أو تبريرها. لكنّه لم يكن السلطان المغوليّ الوحيد الذي نكّل بأقاربه وضحّى بهم على مذبح حبّ السلطة. فتاريخ المغول مليء بمثل هذه الأحداث الرهيبة والقصص الدامية.
بعد أن وطّد أورانغ زيب أركان حكمه، بدأ سلسلة من الحروب والغزوات التي خلقت له الكثير من الأعداء خارجيّا وداخليّا وتركت خزينة الدولة فارغة.
ورغم انه كان يحكم مملكة شاسعة أغلبية سكّانها من الهندوس، إلا أن تعصّبه الدينيّ دفعه للانقلاب على سياسة التسامح الدينيّ التي تبنّاها جدّه السلطان أكبر . فقام بتهميش الهندوس وحظر احتفالاتهم الدينية ومنعهم من تولّي مناصب في الدولة، وأصبح التعيين ليس على أساس الكفاءة وإنما الدين.
ولم يسلم من تعصّبه حتى السيخ، وهم طائفة صغيرة ومسالمة. مؤسّس الديانة السيخية هو المعلّم ناناك، وكان يبشّر بوحدة الأديان وبالأخوّة بين البشر. وأحد أسلاف ناناك كان المعلّم رام داس الذي كان معاصرا لجدّ اورانغ زيب، أي السلطان اكبر. وكان أكبر يحترمه كثيرا، ولطالما أقطعه أراضي من أملاك الدولة كي يقيم عليها معابد لأتباعه.
عداء اورانغ زيب لأتباع الديانات الأخرى وإقصاؤه إيّاهم تسبّب في تقويض ولائهم للدولة ودفعهم للقيام بعدّة انتفاضات شعبية ضدّه نتج عنها إضعاف الدولة وتفتيت المجتمع.

مع مرور الوقت، أصبح أورانغ زيب شخصا متقشّفا، فتجنّب كافّة أشكال الرفاهية وامتنع عن ارتداء الحرير، كما رفض الموسيقى، ولم يكن عنده شيء من شغف والديه بالعمارة والفنون. والأثر الباقي الذي تركه بعد موته وما يزال يُذكر به هو مسجد بادشاهي الذي أمر ببنائه في مدينة لاهور.
كما أعاد العمل بالجزية وحارب ما اعتبره بِدَعاً وخرافات. ثمّ تحوّل إلى المتصوّفة، فأنكر عليهم أفكارهم وطقوسهم قبل أن يأمر بقتل أحد زعمائهم.
ورغم انشغال أورانغ زيب بالحروب والحملات العسكرية، إلا انه كان يجد من الوقت ما يكفي لممارسة هواياته القليلة، مثل كتابة الشعر وقراءة كتب الفلك وممارسة الصيد في براري الهند. في إحدى اللوحات (الأولى من فوق) التي تعود إلى تلك الفترة، يظهر السلطان بلحيته البيضاء محمولا على سرير مرصّع بالجواهر، أثناء رحلة صيد مع أفراد حاشيته.
مشاهد الصيد مألوفة كثيرا في رسم المغول. وهناك ثلاث لوحات أخرى يظهر فيها أورانغ زيب وهو يتعقّب حيوانات برّيّة.
وفي لوحة أخرى، يظهر أثناء حصاره لمدينة غولكوند في وسط الهند وهو يراقب جنوده الذين يهاجمون أسوار المدينة المحصّنة. كانت هذه المدينة مشهورة بقصورها التاريخية ومصانعها ووفرة مياهها وبوجود منجم كبير للماس بها. وقد حاصرها مدّة ثمانية أشهر إلى أن استسلمت في أكتوبر من عام 1687م.
من الأحداث التي توقّف عندها المؤرّخون طويلا قصّة سجن اورانغ زيب لوالده في قلعة اغرا وتركه هناك حتى وفاته. وقد قيل انه سجن والده في البداية في قصره. لكن أشيع في ما بعد أن الأب لم يكن يستنكف عن إقامة علاقات مع بعض نساء القصر بالرغم من تقدّمه في السنّ، الأمر الذي اغضب اورانغ زيب. وقد كتب ذات مرّة إلى احد أصدقائه المقرّبين رسالة يشكو فيها من سلوك أبيه قائلا: لماذا لا يقرأ والدي القرآن الكريم كما افعل"؟!
كانت حياة أورانغ زيب عبارة عن سلسلة طويلة من المآسي. كان أقوى وأغنى حاكم في سلالته. لكنّ حكمه انتهى بفشل كارثيّ، ربّما لأنه كان يفتقر للكاريزما وللدراية الكافية بإدارة شئون الحكم.
وعندما حضرته الوفاة وهو في سنّ الثامنة والثمانين، اعترف بأخطائه طالبا من الله الرحمة والمغفرة. ويؤثر انه قال لمن حوله: لقد أتيت إلى هذا العالم لوحدي، وأرحل عنه الآن غريباً. لا أعرف من أنا ولا ماذا كنت أعمل. وأينما نظرت لا أرى سوى الله. لقد ارتكبت الكثير من الذنوب ولا أدري أيّ عقاب ينتظرني".
عندما توفّي أورانغ زيب كانت مملكته على حافّة الانفجار من الداخل بسبب الحروب والصراعات المستمرّة. خليفته، أي ابنه بهادور شاه، كان هو الآخر عجوزا عندما توفّي والده، لذا لم يحكم أكثر من بضع سنوات.
وشيئا فشيئا حلّ الوهن والتآكل في أركان الإمبراطورية مع ظهور نزعات انفصالية في أكثر من ولاية، ما جعل البلاد هدفا لأطماع القوى المتربّصة. ومع تولّي بريطانيا حكم الهند، كان زمن المغول كحكّام على البلاد يقترب من نهايته.
في البداية، قام الانجليز بنفي آخر أباطرة المغول بهادور الثاني، ثم ألغوا مملكته وأعدموا خليفته. ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت إمبراطورية المغول في الهند، بأمجادها وتاريخها الطويل، مجرّد ذكرى غابرة.