:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، فبراير 16، 2017

مقاطع من حلم/2


بسبب قصيدة كولريدج وكتابات ماركوبولو، تحوّلت زانادو (أو شانغدو كما تُسمّى بالصينية)، ومعها قصر قبلاي خان العظيم، إلى مكان أسطوريّ واُضفي عليها طابع رومانسيّ. وأصبح اسم المدينة اليوم كناية عن مكان غرائبيّ وساحر ولا يمكن بلوغه يقع في أعماق الشرق الغامض، مثل شانغريلا.
صحيح أن قصيدة كولريدج هي عن شخص ومكان ما، لكنّها أيضا عن كيف تستطيع أن تخلق أشياءً وتبني قصورا بالكلمات وحدها.
في الجزء الأوّل من القصيدة، توقّفنا عند حديث الشاعر عن التلّ الأخضر وغابة الأرز والمرأة عاشقة الشيطان.
وفي هذا الجزء نتناول بقيّة القصيدة. وستلاحظ مع القراءة كيف أن الشاعر يلوّن المزاج في هذه الطبيعة ولا يقدّم شخصيّات جديدة. لذا لا تدع التفاصيل تصرفك بعيدا عن القصّة الأساسية. وتذكّر دائما أننا نسمع وصفا لحلم أو رؤيا.
هل حدث لك ذات مرّة وأنت على وشك النوم أن لمعت صورة ما في عقلك ثم اختفت فجأة؟ شيء مثل هذا الإحساس المكثّف لمع في ذهن الشاعر للحظات عندما رأى صورة هذه المرأة وشيطانها قبل أن يختفيا.

  • ومن هذه الفجوة، وباضطرابٍ عارم دون توقّف،
    وكما لو أن هذه الأرض كانت تتنفّس بلهاثٍ ثقيل متسارع،
    تفجَّرتْ بغتةً نافورة ضخمة
    بين فتراتِ تقطّعها السريع انفجرت
    قِطَع ضخمة قافزة كبَرَدٍ وثّاب
    أو كهشيم القمح المتناثر تحت ضربات الدرّاسة
    وبين هذه الصخور الراقصة انبثق
    النهر المقدّس فوراً وإلى الأبد
    تأمّل هذه الكلمات القويّة والدراماتيكية: فجوة، اضطراب، دون توقّف. هذا النهر ليس هادئا، لا يسير بتثاقل أو كسل كالكثير من الأنهار، بل هو أقرب ما يكون إلى نوع من الأنهار الفانتازية والمستحيلة.
    طبعا من عادة الأنهار ألا تتوقّف عن الجريان، لذا لم يكن كولريدج بحاجة ليخبرنا أن النهر يجري في كلّ حين. لكنه أراد أن يجعلنا نفكّر في النهر كشيء يتمّ خلقه كلّ ثانية. وهو يريد أيضا أن يصوّر اندفاع الماء وتكسّره وهيجانه.
    كان الشاعر وزملاؤه الشعراء الرومانسيّون يحبّون مناظر مثل هذه، حيث القوّة الهائلة للطبيعة تنطلق من عقالها وتشقّ طريقها بعنف، وعلينا بعد ذلك أن نراقبها.
    ويبدو أن هذا المشهد أخذ خيال الشاعر بعيدا فحوّل الأرض إلى ما يشبه حيوانا يتنفّس. وهو يريدنا أن نسمعه ونشعر بالقوّة الساحقة لهذا النهر. كما انه يحافظ على هذه الحدّة والكثافة سطرا بعد سطر جاذبا القارئ نحو النهر مرّة إثر أخرى.
    يمكننا أن نحفر في كلّ واحدة من هذه الصور وألا نتوقّف عن النظر والتأمّل في كلّ سطر من هذه السطور. هل تشعر باندفاع الماء وتتخيّل تكسّر الأمواج فوق الصخور؟ إن كان الجواب نعم، فقد أدّت القصيدة وظيفتها.
    هذه الأسطر أشبه ما تكون بأوركسترا سيمفونية: شعور مندفع، أصوات وحماس. واستحضار الشاعر لكل هذه القوّة الطاغية للطبيعة في القصيدة هو طريقة لجعلك تفكّر في الحبّ والموت والروح والخلود. والشاعر يريد من ورائها أن يشدّ انتباهك وأن يأخذك معه بعيدا.

  • خمسةَ أميالٍ متعرِّجة بحركة محيِّرة
    خلال غابة ووادٍ جرى النهر المقدَّس
    وبعدها وصل الكهوف التي لا يدرك إنسان مداها
    وغارَ في جلبةٍ في بحرٍ لا حياة فيه
    فجأة تهدأ الأشياء قليلا. والنهر يصل إلى سهل مستوٍ من الوادي حيث يقع زانادو، ثم يبدأ "متعرّجا بحركة محيّرة". الآن أصبحنا نعرف قصّة النهر بأكمله من منظور شخص ما في زانادو. النهر يجري والماء يتحرّك بسرعة وبثورة كما لو انه شلال، ثم لا يلبث أن يهدّئ من سيره ويمرّ عبر زانادو لخمسة أميال حتى يصل إلى الكهوف.
    لا أحد يعرف عمق تلك الكهوف، إنها ضخمة بحيث يستحيل قياسها. لكنّنا نعرف أنها تحتوي على محيط تحت الأرض يصبّ فيه النهر. هل تتذكّر عبارة "بحر بلا شمس"؟ إنها تعود مرّة أخرى هنا على صورة "بحر لا حياة فيه". وصفان مختلفان، لكنّهما يوصلان نفس المعنى الكئيب.

  • ووسط هذه الجلبة سمع قبلاي من بعيد أصوات
    أسلافِه متنبّئةً بحرب
    إلى ما قبل هذه الفقرة، يبدو أن كولريدج نسي تماما قبلاي خان. والآن يعود إليه من جديد. الخان يراقب كلّ هذه الضوضاء، ومن خلالها يسمع من بعيد أصوات أسلافه الموتى وهم يتنبّئون بالحرب.
    بعد كلّ شيء، علينا أن نتذكّر أن هذا الرجل هو حفيد جنكيز خان. وهو لم يكن معروفا بحبّه للسلام، بل بحروبه وغزواته الكثيرة. ومن المرجّح انه قضى وقتا طويلا يفكّر بالحرب، حتى وهو يصيخ سمعه إلى صوت المياه المتكسّرة للنهر. هذه الصورة تأخذنا إلى الجزء الأكثر عنفا من القصيدة.


  • في منتصف طريقه طفا ظلّ قُبّة الابتهاج على الأمواج
    حيث سُمع ما اختلط
    من النافورة ومن الكهوف
    ننظر الآن إلى الخارج، إلى القبّة والظلال التي تلقيها فوق المحيط. في أربعة اسطر فقط نحصل على الأمواج والكهوف والنافورة وقبّة الابتهاج.
    كلّ شيء مختلط هنا، بما في ذلك الأصوات المختلفة للنهر. في الواقع هناك أنواع من الموسيقى في هذه القصيدة، لكنّها موسيقى غريبة وغير منتظمة.

  • كان معجزة لاختراعٍ نادر
    قبّةُ ابتهاج مُشمسة بكهوف من ثلج
    هذان السطران السريعان يأخذانا إلى نفس التباينات التي رأيناها في القصر والنهر. في الأبيات الاستهلالية، لم يقل الشاعر شيئا عن برودة الكهوف أو سخونة القبّة. لكنه يوضّح هذه الأشياء هنا. ثمّة عالم من التباينات: العالم الطبيعيّ مقابل العالم الذي صنعه الإنسان، المُشمس والمُثلج، فوق الأرض وتحتها.

  • صبيّةً بسنطور
    رأيت ذات مرةٍ في الرؤيا
    فتاة حبشيّة
    وعلى سُنطورها نقرت
    مغنيّةً جبل أبورا
    الآن تأخذ القصيدة انعطافة كبيرة. ومن دون سابق إنذار، يغيّر الشاعر الموضوع ويبدأ في وصف رؤيا أخرى رآها من قبل. يرى فتاة يخبرنا عنها ثلاثة أشياء في ثلاثة اسطر: هي حبشية، وتعزف على سنطور، وتغنّي أغنية من مكان يُسمّى "جبل ابورا" وهو من اختراع كولريدج.
    لماذا هذه الصور الثلاث معا؟ نحتاج لأن نتمعّن قليلا لنرى إن كان هناك نوع من الشفرة أو الرمز. البعض يعتقد أن الشاعر يشير إلى مكان ما في إثيوبيا، والبعض الآخر يظنّ أنها إشارة مقتبسة من الإنجيل، والبعض الثالث يعتقد انه مكان ذكره جون ميلتون في روايته "البحث عن الفردوس المفقود".
    ربّما كان كولريدج يريد إضفاء بعض الغموض على هذا الجزء بالذات من القصيدة. وكان بإمكانه أن يوضّح أكثر فيما لو أراد. لكن كلّ هذه الأحلام والرؤى خاصّة ولا يمكن تفسيرها. وهذا الإحساس بالغموض هو احد الأسباب التي تجعل من هذه القصيدة قصيدة جميلة.

  • هل أستطيع أن أحيِي في داخلي
    سيمفونيّتها وأغنيتها
    بمثل هذا الابتهاج العميق قد تملكني
    بذاك، بموسيقى هادرة وطويلة
    أريد أن أبني تلك القبّةَ في الهواء
    تلك القبّة المشمسة! تلك الكهوف من الثلج!
    وكلّ من سمع يجب أن يراها هناك
    الآن ينظر الشاعر إلى الوراء متذكّرا الموسيقى التي سمعها في الرؤيا. يستطيع أن يصفها، لكن ليس بمقدوره أن يعود إلى الوراء لتجريب ذلك الشعور المكثّف. ومع ذلك هو يتطلّع لتلك التجربة، إلى الشعور بالدهشة الذي اختفى مع تلك الرؤيا.
    الشاعر يريد أن يبعث الموسيقى من جديد، أن يعيدها إلى الحياة. ولو استطاع إن يتواصل مع تلك الرؤيا، فإنه يتخيّل أنها يمكن أن تلهمه وتسمح له بخلق أشياء مدهشة هو نفسه.
    موسيقى المرأة ستملأ روحه، ومن خلالها يمكنه هو أيضا أن يجعل موسيقاه شجيّة وعالية. وهذه الموسيقى ستمكّنه من استعادة روح زانادو كي "يبني تلك القبّة في الهواء".
    كلّ هذا قد يبدو غريبا للوهلة الأولى عندما تتأمّله، رغم أن هذا وصف عظيم لما يمكن أن يفعله كلّ فنّان. فالمؤلّفون الموسيقيّون والشعراء جميعهم يبنون أشياءهم في الهواء، يستخدمون الكلمات والأحداث لجعل رؤاهم تتحقّق في واقع الحياة.
    والشاعر يقول انه يتمنّى أن يعيش التجربة الموسيقيّة مرّة أخرى، وهذا هو بالفعل ما يفعله في القصيدة. انه يستخدم الكلمات كي ينقلنا معه لنعيش ما رآه "وكلّ من سمع يجب أن يراها هناك".

  • والكلّ يجب أن يصرخ، حذارِ! حذارِ
    عيناه المتوّهّجتان، شعره المسترسِل!
    اِنسجْ دائرة حوله ثلاث مرّات
    واغمض عينيك برهبة مقَدَّسة
    لأنّه تغذّى على المنّ
    وشرب حليب الفردوس
    لكنّ هذه الرؤيا ليست فقط عن قبّة. فالشاعر عندما يناجي زانادو، فإنه أيضا يستحضر روحا غريبة. وهذا المخلوق الآخر أكثر إثارة للخوف من القصر ومن الكهوف والمحيط.
    في بعض أفلام الرعب، يحدث أحيانا أن يتفوّه مجموعة من الأطفال بكلمة سحرية ثلاث مرّات كي يستدعوا مخلوقا شرّيرا. تلك الفكرة تشبه هذه. والشاعر يتخيّل انه لو تحقّقت رؤياه، فإنها ستخيف البشر وتجعلهم يصرخون "حذارِ حذارِ".
    إنه يصف شخصا مخيفا بعينين متوقّدتين وشعر مسترسل. وهذا المخلوق مخيف جدّا، لدرجة أن عليك أن تقوم ببعض الطقوس السحرية لحماية نفسك من شيطانه "إنسج دائرة حوله ثلاث مرّات".
    ما هي هذه الروح الغريبة؟ الشاعر لا يقول عنها شيئا. ربّما كان يتحدّث عن نفسه. وربّما أصبحت أغنيته الخاصّة ورؤياه قويّة جدّا لدرجة أنها تحوّلت إلى نوع من الإله يأكل "المنّ ويشرب حليب الفردوس". وقد تكون هذه الصور إشارة إلى الأفيون الذي تعاطاه كولريدج قبل أن ينام تلك الليلة والذي جعل هذا الحلم ممكنا في المقام الأوّل.
    أو قد تكون هذه هي الرؤيا الأخيرة لقبلاي خان نفسه بتحوّله إلى نوع من المخلوقات الغريبة والجديدة. لكن الذي يبقى معنا هو الصورة المكثّفة التي أصبحت أكثر تشويقا بفضل وصفها الغامض.

  • Credits
    poemanalysis.com
    alchetron.com