:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، فبراير 04، 2017

تساؤلات نيتشه


الفيلسوف الألمانيّ فريدريك نيتشه ما يزال حاضرا بقوّة في عالم الأفكار والكتب. وفي مواقع الانترنت ومنتديات النقاش، ما يزال من أكثر الكتّاب الذين يُستشهد بأقوالهم وآرائهم.
وليس أدلّ على أهميّة نيتشه المستمرّة من حقيقة أن البعض يعتبره فيلسوف القرن العشرين بلا منازع، لأنه ناقش قضايا أساسية وأثار حوله وحول أفكاره جدلا ما يزال قائما.
لكن من الصعب قراءة كتب نيتشه أو تحليل أفكاره. قد يعود السبب إلى انه كان من عادته أن يكتب بانفعال وعاطفة. وهناك أيضا من لا يحبّون لغته الخطابية ومثالية أفكاره وعداءه الواضح للديمقراطية.
تقرؤه أحيانا فتحسّ انه عالم نفس أكثر من كونه فيلسوفا. هو نفسه كان يقول: إقرءوني كعالم نفس". وهناك من يقول أن من الخطأ مقاربة أفكاره من خلال المنهج التحليليّ، لأنه كان يعبّر عن نفسه وأفكاره بأسلوب عاطفيّ وحماسيّ غالبا.
كان نيتشه كاتبا نخبويّا، وكان يعرف انه يكتب لعدد قليل من الناس. وكثيرا ما كان يقول انه لا يريد قرّاءً. ومن عباراته المشهورة قوله إن هناك كتبا لكلّ الناس، وكتبا للا احد مثل كتبه.
صحيح انه لم يكن له قرّاء خلال حياته، وآخر كتابين له دفع مالا من جيبه مقابل أن يُنشرا. لكنه كان ذكيّا عندما قال إن بعض الناس يولدون بعد موتهم. كان يعرف انه سيصبح كاتبا مشهورا وسيكون له قرّاء كثر بعد موته. وهذا ما حدث فعلا.
وبعض النقّاد والكتّاب يقولون إن نيتشه سيعيش لمائتي أو ثلاثمائة عام قادمة وطالما أن الناس يقرؤون الكتب، لأنه كاتب قويّ ولامع. كانت لديه تكهّنات كثيرة وأثار العديد من الأسئلة المهمّة، مثل: لماذا نحن هنا، ما معنى الحياة، وما هي وظيفة الدين، وما هي دوافعنا النهائية كبشر؟ وقد كان جريئا جدّا عندما طرح هذه التساؤلات.
في احد كتبه فصل بعنوان "الرجل المجنون"، يتحدّث فيه عن رجل يذهب في الصباح إلى السوق وهو يصرخ: إنني ابحث عن الله. وأقول لكم: لقد قتلناه، أنتم وأنا. كلّنا مجرمون. لكن كيف فعلنا ذلك؟"
ومن هنا جاءت مقولة "موت الإله" التي تُنسب إلى نيتشه، مع أن من قالها كان رجلا مجنونا وليس هو. وحتى لو كان الرجل يمثّل نيتشه فالمرجّح انه إنّما كان يقصد من عبارته تلك انهيار القيم المسيحية بما فيها الحقيقة، لأن الحقيقة هي كلمة الربّ. وكان بذلك يدعو إلى إعادة النظر في كلّ تلك القيم لأنها لم تعد تحرّك الناس أو تؤثّر فيهم، لذا حسب رأيه لا بدّ من استنباط قيم جديدة تتماشى مع روح العصر.
لم يكن نيتشه يقول ما هي تلك القيم التي يقصدها "يجب أن تخلقوا قيمكم الخاصّة". وهو لم يكن يؤمن بقيم مطلقة، وكان يعيب على الألمان افتقارهم للقيم الحقيقية مثل تلك التي كانت لدى الإغريق. وقد ظنّ البعض أنه كان يدعو لحياة بلا قيم، وهو لم يقل بذلك. كانت لديه قيم، وقيمه الحقيقية كانت في الثقافة والإبداع.
أفكار نيتشه عن السعادة جميلة وملهمة. كان يقول إن القطيع يرى سعادته في غياب المشاكل، في حين أن الحياة العظيمة يجب أن تكون فيها معاناة، والسعادة لا تتحقّق إلا بوجود التحدّيات ثم الاستمتاع بقهرها.
ورغم انتقاداته الكثيرة للمسيحية، إلا انه كان يحترمها كدين لأنها أنقذت الكثيرين من هاوية العدمية والانتحار. كان يأخذ على المسيحية أنها تأمر الإنسان بأن يتنكّر لدوافعه البشرية وتطلب منه بالتالي أن يتبرّأ من نفسه، في حين أن نيتشه كان يؤكّد على أهمّية تلك الدوافع ويدعو إلى إضفاء جانب أخلاقيّ عليها.
ومن آرائه المثيرة للجدل أيضا قوله إن هناك مسيحيّا واحدا فقط، وقد مات على الصليب شابّا وقبل الأوان. وكان يرى التمييز بين أمرين مختلفين: عقيدة المسيح نفسها، وما ما أصبحت عليه المسيحية بعد ذلك. كان يعتقد أن المسيحية تحوّلت لايديولوجيا تكره الحياة وإلى "ماكينة تدفعنا للتبرّؤ من أنفسنا، ونتيجة لذلك أصبحنا غرباء على أنفسنا".
الجانب غير المعروف كثيرا من نيتشه كان عشقه للموسيقى وكتابته عددا من المقطوعات الموسيقية. وهذا ليس بمستغرب من الرجل الذي قال إن الحياة بلا موسيقى كان يمكن أن تكون غلطة. كما يُؤثَر عنه قوله: لا يوجد فيلسوف هو في الأساس موسيقيّ أكثر منّي، رغم أنني قد لا أكون موسيقيّا ناجحا".
وقد اظهر نيتشه اهتماما بالموسيقى منذ صغره وألّف عددا من المعزوفات ما بين سنّ الثالثة عشرة والثانية والعشرين. وبعض معزوفاته التي كتبها للبيانو جميلة وخفيفة وحالمة "يمكن سماع بعضها هنا ". لكن لا يمكن مقارنة موسيقاه بكتاباته المليئة بالتعبيرات الفخمة والباذخة. وهناك من يقول انه استخدم الأشكال الموسيقية كقوالب لكتاباته الفلسفية.
لم يترك نيتشه نظرية متماسكة في الفلسفة، مثل سارتر أو كانت أو أرسطو. كانت كتاباته تتناول مسائل عمومية، مثل ما الذي يجب فعله عندما تصبح القيم قديمة وغير فاعلة، وكيف يستطيع الإنسان أن ينتصر على نفسه ويجعلها أفضل، وكيف يمكن تجديد الثقافة، وما هو دور الأخلاق والسلوك الجيّد في الحياة.
كان يطرح مثل هذه التساؤلات دون أن يقدّم أو يقترح أيّة إجابات عليها. ورغم ذلك، ما تزال الأسئلة والأفكار التي أثارها وثيقة الصلة جدّا بعالمنا اليوم.

Credits
philosophypages.com