:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، فبراير 25، 2017

عوالم مثالية


تحدّث الفلاسفة والشعراء منذ القدم عن نقص الحياة أو عدم كفايتها. بمعنى أن الحياة بطبيعتها ناقصة ومؤقّتة ومعيبة بما لا يسمح للإنسان أن يستمتع بها ويعيش فيها بحرّية وسعادة.
هذا الشعور قديم جدّا. وهو كان وما يزال ملازما لوعي الإنسان منذ آلاف السنين ومادّة لتأمّل الكثير من الكتّاب والمفكّرين.
الزعماء الدينيون والروحانيون أدركوا انشغال الإنسان بهذه القضيّة منذ الأزل، لذا تحدّثوا عن شكل من أشكال الحياة بعد الموت؛ عن يوتوبيا أو فردوس من نوع ما، يمكن أن يحقّق للإنسان حياة كاملة ومثالية.
وفي الحقيقة، كلّ الأديان تتمحور حول هذه الفكرة بالذات، وهي أن هذه الحياة ناقصة ومؤقّتة. ووظيفة الدين في هذه الحالة تتمثّل في محاولة تقديم حلّ لهذه الإشكالية، هو عبارة عن وعد بحياة أفضل تتجاوز القبر وتَعِد الإنسان بالسعادة والحرّية والخلود.
البعض يُرجعون بعض أسباب تعاسة الإنسان إلى الصراعات التي يغرق فيها العالم وإلى شيوع الظلم والطمع والصراع والأنانية على امتداد تاريخ البشرية الطويل. ولهذا السبب وغيره، أصبح الكثيرون يلحّون في التساؤل عن معنى الحياة أو الجدوى منها.
هناك من يرى أن نقص الحياة أو عدم كمالها يمكن تجاوزه بامتلاك الثروة. لكن ثبت أن هذا غير صحيح. صحيح أن الثروة يمكن أن تجعل الحياة أكثر يسرا وراحة. لكن مع مرور الوقت فإن الثراء لوحده لا يحقّق السعادة المنشودة بالضرورة، فالأشياء الجديدة التي يمكن أن نشتريها سرعان ما تصبح قديمة عندما نعتادها وتصير جزءا من حياتنا اليومية.
والمتع المادّية التي نكتسبها قد تجعلنا سعداء لفترة قصيرة فقط، ومع مرور الوقت تفقد قيمتها وجاذبيّتها. والكثير من هذه المتع لا تشبع شعور الإنسان بأن للحياة غرضا أو غاية. وحتى العلاقات مع الآخرين كالعائلة والأصدقاء والمعارف على أهميّتها ليست دائمة، بل هي عرضة للتغيّر بحسب الظروف.
ومن هنا تأتي الفكرة القائلة بأنه إذا كان هناك أمل للبشر، فلا بدّ وأن يكون في شيء غيبيّ يقع خارج هذا العالم.
وتوق الإنسان إلى عالم مثاليّ خارج العالم المحسوس، أيّا كان اسمه، سببه - بحسب بعض الكتّاب - أن الطبيعة البشرية فاسدة ومنحطّة من الأساس. وحتى أولئك الأفراد الذين يتّصف مسلكهم بدرجة عالية من الخيريّة والإنسانية، تجد أنهم مع ذلك مسكونون دائما بالشعور بالتوق إلى منفى أو عالم خاصّ أو بعيد.
وبعض الشعراء، على وجه الخصوص، تحدّثوا عن توقهم لمكان ما يصعب تحديده، إما انه يقع في المستقبل أو كان له وجود في الماضي لكنه اختفى.
والذهاب إلى هذا المكان أو العودة إليه يشبع حلم الإنسان بعالم طوباويّ يمكن أن يوفّر للحياة غرضا وللوجود معنى. وهذا الإحساس بالتوق والتطلّع إلى "يوتوبيا" ما كثيرا ما يصاحبه شعور بالحزن.
وهناك حالات يمكن أن تستحضر مثل هذا الشعور، مثل سماع موسيقى معيّنة، خاصّة إن كانت من النوع الملحميّ، أو الاستمتاع بمنظر طبيعيّ جميل.
كما أن هناك بيئات معيّنة يمكن أن تثير مثل هذا الشعور، كانهمار المطر ومنظر الغروب أو تساقط أوراق الخريف تحت سماء غائمة.
والإحساس بالتوق يمكن أيضا أن يتحقّق بالتأمّل في بعض لوحات الرسّامين الانطباعيين وكذلك في بعض قصائد الشعر التي تستثير في الناظر مشاعر شتّى.
وقد تحدّث بعض الكتّاب عن بعض أشكال الموسيقى التي تمنح وعدا بالجمال بإثارتها شعورا سريعا بالنشوة والتوق، مثل بعض المؤلّفات الموسيقية الكلاسيكية التي تعطي انطباعا عن مضيّ الزمن وتتحدّث عن أسرار الحياة والحبّ والموت.
والمفارقة أن هذا الإحساس بالتوق والحنين الممزوج بالحزن يأتي غالبا عندما نكون في ذروة تمتّعنا بالأشياء الجميلة في الحياة، كتغريد الطيور في الصباح أو أصوات تكسّر أمواج البحر أو ضحكة طفل صغير.
وهذه كلّها ليست سوى إلماحات إلى ما تعنيه اليوتوبيا أو العالم المثاليّ في أذهاننا، كما أنها صور سريعة لشيء ما أعظم من الحياة نفسها.
ورغم أن هذه الأشياء قد لا توفّر للإنسان الخلاص النهائيّ الذي يبحث عنه، إلا أنها تمنحه الأمل بشيء ما يتجاوز مفاهيم الزمان والمكان المعروفة.
وربّما لهذا السبب، عندما تجد فنّانا أو شاعرا يعبّر عن رغبته في أن يشمّ عبير زهرة لم توجد بعد، أو أن يسمع نغما لم يسمعه أحد من قبل، أو أن يذهب إلى مكان لم يسبق لأحد أن زاره، فإنه بذلك إنّما يعبّر عن رغباته التي لا يمكن تحقيقها، وبالتالي عن شوقه وتوقه وتطلّعه لتجارب مثالية بديلة عن الطبيعة المعيبة والناقصة للحياة.

الاثنين، فبراير 20، 2017

عصر النهضة

ما يزال المؤرّخون مختلفين حول ما يعنيه عصر النهضة بالتحديد. لكن ممّا لا شكّ فيه أن شيئا ما غير عاديّ حدث في منتصف الألفية الماضية وغيّر وجه الحضارة الغربية. وممّا لا شكّ فيه أيضا أن عائلة ميدتشي الايطالية كانت راعية ومؤثّرة في إحداث ذلك التغيير الكبير.
بشكل عام، يمكن القول إن عصر النهضة يُقصد به الفترة الممتدّة من عام 1300 إلى عام 1600م والتي تلت القرون الوسطى مباشرةً في أوربّا وشهدت موجة من الابتكارات الفنّية والثقافية التي اكتسحت المجتمع القروسطي وأدخلت الثقافة الأوربّية في العصر الحديث.
في عصر النهضة استُبدل النظام الفلكيّ القديم لبطليموس بنظام كوبرنيكوس وانهار النظام الإقطاعيّ وازدهرت التجارة واختُرع الورق والطباعة والبوصلة والبارود.
وفيه أيضا عاشت أرجاء كثيرة من أوربّا استقرارا سياسيّا ورخاءً اقتصاديّا واكتُشفت قارّات جديدة وازدهرت الفلسفة والآداب والفنون.
وبدأ المبدعون في جميع الميادين، من رسّامين ونحّاتين ومهندسين وكتّاب وشعراء وموسيقيين، يهتمّون بتمجيد الإنسان وبالتصوير الواقعيّ للجسد الإنسانيّ وللطبيعة وبالنظر إلى الفنّان كفرد مستقلّ بذاته.
وفي ذلك العصر أيضا عاش أدباء مشهورون مثل بترارك وبوكاتشيو اللذين نظرا إلى الخلف؛ إلى روما واليونان وسعَيا إلى إنعاش اللغات والقيم والتقاليد الثقافية لتلك الحضارات بعد فترة طويلة من الركود تلت سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن السادس الميلادي.
وفي عصر النهضة لم يعد الناس يتقبّلون تعاليم وإملاءات الكنيسة كيفما اتّفق ولم يعودوا يتسامحون مع فساد وانحلال رجال الدين. وفيه أيضا أصبح الراهب الألمانيّ مارتن لوثر أوّل "زنديق" ينشر نظرياته علنا، فأبطل قرونا طويلة من تقديس الاكليروس ومهّد الطريق لثورة في الإيمان وقسّم العالم المسيحيّ إلى الأبد.
أيضا في عصر النهضة أصبح الناس توّاقين لدراسة عالم الطبيعة واكتشاف أنفسهم من خلال التعرّف إلى أسرار الكون. ثم فاجأ غاليليو المؤسّسة الكاثوليكية بإعلانه أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس.
أما في الرسم، فقد انفصل الفنّانون عن التقاليد الدينية لعالم القرون الوسطى، واكتشفوا لأوّل مرّة كيف يرسمون بأبعاد ثلاثة وابتكروا أساليب ثورية في الرسم مثل الرسم بالزيت وتقنيات المنظور، وتزعّم ليوناردو دافنشي علم دراسة التشريح البشريّ وتوظيفه في الرسم.
وفي السياسة، أعيد بعث ومناقشة النصوص القديمة التي لم تُقرأ طوال ألف عام. ومع اكتشاف الطباعة، اكتسحت الأفكار والنظريات أوربّا بسرعة وأشرك الكتّاب والمفكّرون الناس العاديّين في أفكارهم وتصوّراتهم.
وفي كلّ أرجاء ايطاليا ازدهرت الجمهوريات والدوقيات وحوّل الملوك والأمراء الأوربّيون أنظارهم إلى ايطاليا مأخوذين بوهج الانجازات والاختراقات المبدعة. وفي ذلك العصر كتب ميكيافيللي كتابه "الأمير" الذي ضمّنه تصوّراته عن عالم براغماتيّ فيه الغايات تبرّر الوسائل.

ترى هل كان الفنّانون الذين صنعوا فنّ عصر النهضة يعرفون أنهم كانوا يعيشون في "عصر نهضة" فعلا؟ وبعبارة أخرى، هل كانوا واعين بأنهم ينتمون إلى عصر اسمه "عصر النهضة" ويتماهون مع معاني ودلالات ذلك الوصف؟
هذا السؤال مهمّ ومثير للفضول. وبعض المؤرّخين يقولون: لا ونعم. فكما هو الحال دائما في التاريخ، تبدو العملية معقّدة بعض الشيء.
ولكي تتّضح لنا الصورة أكثر، يجب أن نحاول معرفة متى ظهر ذلك المصطلح بالتحديد ومن الذي استخدمه أوّل مرّة ولماذا.
كلمة "نهضة" فرنسية الأصل، تعني الانبعاث أو الولادة الجديدة. وقد دخلت إلى اللغة الانجليزية حوالي عام 1800 لتشير إلى الفترة المذكورة (1300-1600) كإعادة بعث لثقافة وفنّ الأزمنة القديمة في روما واليونان.
لكنّ أوّل ذكر للمصطلح الذي تشير إليه الفكرة أتى قبل ذلك بحوالي ثلاثمائة عام. ففي عام 1550، وفي كتابه "تاريخ الفنّانين"، استخدم المؤرّخ الايطالي جورجيو فاساري الكلمة الايطالية "النهضة" ليصف الأسلوب الفنّي الجديد الذي اتّبعه الفنّانون آنذاك، مثل ليوناردو دافنشي وميكيل انجيلو ورافائيل.
فاساري، الذي يُوصف عادةً بأنه أوّل من أرّخ للفنّ الأوربّي، قسّم فنّاني تلك الفترة إلى ثلاث مراحل: الأولى تتضمّن جيوتو، احد أوائل الرسّامين الايطاليين الذين تخلّوا عن الأساليب القديمة وتبنّوا نهجا أكثر واقعية في رسم البشر والطبيعة والمعمار.
كانت جهود جيوتو مبتكرة، لدرجة أن من جاءوا بعده في القرن الخامس عشر قضوا سنوات يبنون على ابتكاراته الفنّية. وقد امتدحه فاساري بقوله انه أعلن عن ولادة لحظة جديدة في الرسم.
المرحلة الثانية من رسّامي عصر النهضة تتضمّن ماساتشيو ودوناتيللو وغيرهما من الفنّانين الذين كانوا نشطين في القرن الخامس عشر. وهؤلاء كانوا يدفعون عن وعي باتجاه أعراف فنّية جديدة.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة، بحسب فاساري، فكانت تغطّي معظم العصر الذي عاش فيه هو، أي النصف الأوّل من القرن السادس عشر. فنّانو تلك المرحلة عملوا بالطريقة الحديثة التي بدأها جيوتو وطوّرها الفنّانون الذين أصبحوا مشهورين أكثر من غيرهم بارتباطهم الوثيق بعصر النهضة، أي تيشيان وليوناردو دافنشي ورافائيل وميكيل انجيلو وكوريجيو.
وخلال تلك الفترة، ربّما كانت كلمة النهضة غير معروفة بعد ولم تَرِد على ألسنة الفنّانين آنذاك الذين أصبحوا يمزجون تحفهم الفنّية بالكثير من الدراما والانفعالات. لكنّهم بالتأكيد كانوا يعرفون أن شيئا ما جديدا كان يحدث.
وبينما كانوا متأثّرين بالفنّ الرومانيّ واليونانيّ الكلاسيكيّ ويعتبرونهما مصدرا للإلهام، إلا أنهم أيضا كانوا مدفوعين بالفكر التنافسيّ ليخلقوا شيئا جديدا ومختلفا عن الأجيال السابقة. وفي نفس الوقت كانوا يمهّدون الطريق للفنّانين الذين أتوا بعدهم لكي يناضلوا بوعي من اجل خلق وابتكار أشياء جديدة ومتجاوزة.

Credits
visual-arts-cork.com